نوستالجيا

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 28 مارس 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

كان اليوم الذى تصل فيه رسالة الابن الذى ساقته ظروفه إلى العمل خارج البلاد يوما تختلط فيه السعادة بالحزن أو يتعاقبان على امتداده وربما فى اليوم اللاحق أيضا. كانت اللهفة تتخاطف الرسالة وحظه كبير من يقع عليه الاختيار لقراءتها، فهو الذى سينعم بأحضان من الأم وسيكون أول من يجفف على وجنتيها دمعة السعادة وبعدها دموع الحزن والحنين. كانت هذه الرسالة الفرصة التى تنتظرها الأم لتجدد عتابها للأب الذى شجع ابنها وضناها على السفر.

 

●●●

 

لم يعرف المصريون الاغتراب إلا حديثا وكان أساتذة الجامعات أولى الفئات التى جربت العمل فى الخارج فى دول كالعراق والكويت، وبعدهم تعددت الفئات فى موجات متلاحقة متراوحة بين عمال البناء والشغالات والطباخين والحرفيين إلى الفلاحين الذين كانوا من أواخر المنضمين إلى ركب الاغتراب، وهؤلاء كان نصيب الأقلية منهم غور الأردن والعراق أما الأغلبية فاغتربت مسافة ومهنة حين تخلت عن الفلاحة وقبلت أى عمل. هؤلاء رأيتهم يبيتون فى عراء مطار قرطاج فى تونس مرورا فى طريق الاغتراب إلى ليبيا أو عودة الى الوطن حاملين مراوح الكهربا، وأنواعا شتى من الشامبو ومساحيق التجميل. حدث هذا قبل أن ينتبه شبان بالآلاف إلى أن الهجرة إلى أوروبا تستحق المخاطرة ربما لأن عائدها أوفر أو لأن المهاجر يحظى فيها برعاية صحية واجتماعية لا تتوافر فى أوطانهم الأصلية.

 

●●●

 

لا يحكى العائدون من الغربة للأهل أو الأصدقاء عن أسوأ ما عانوه خلال الاغتراب. يتعمد المغترب العائد أن يذكر محاسن تجربته ويفخر بما حقق ويشيد بما رأى وسمع. اختلطت بمغتربين مصريين فى كل مكان اغتربت فيه وأعرف حق المعرفة شدة معاناتهم. كنت أردد أنه لو أن كلا منهم روى لأهله وعشيرته وأصدقائه الأهوال التى مر بها خلال غربته لتوقف سيل الاغتراب. لم أدرك وقتها حقيقة أن المجتمعات التى جربت الاغتراب لم تفعل ذلك شغفا فى السفر والسياحة أو إشباعا للفضول. فعلته للضرورة ولن تمنعها عنه أمواج عاتية ونوم فى العراء تحت المطر وقسوة العسكر. وقد توصل استطلاع للرأى أجرى أخيرا على مستوى العالم إلى أن أكثر من 1.1 مليار شخص يريدون الرحيل إلى بلد آخر بحثا عن عمل أو فرص أفضل، و630 مليونا يريدون الهجرة نهائيا ولا ينوون العودة. هؤلاء من كانوا يسعون إلى الاغتراب لو لم تكن أحوالهم الاقتصادية متردية، أو كانت ظروف العمل فى بلادهم تناسب طموحاتهم، أو لم تقع كارثة طبيعية تهلك مصادر الرزق ككارثة البطاطس التى دفعت بالايرلنديين إلى الهجرة الجماعية إلى الولايات المتحدة، أو لم تقع فتنة طائفية كتلك التى دفعت بمئات الآلاف من انجلترا وغرب أوروبا لاستيطان أمريكا. ومع ذلك يبقى الفقر السبب الأول والرئيسى للهجرة.

 

●●●

 

انقضى زمن الرسائل البريدية كوسيلة اتصال وحيدة بين المغتربين وأهاليهم. ويظن البعض من الناس أن الشعور بالحنين إلى الوطن والأهل لم يعد كما كان فى زمن البريد دافقا وقويا. الاعتقاد السائد الآن هو أن وسائط الاتصال الحديثة كالفيسبوك والتويتر والبريد الالكترونى خففت كثيرا من معاناة المغتربين من ناحية ومعاناة الأهل من ناحية أخرى. يضرب كثيرون المثل بالسكاى بى، أى الاتصال بالصوت والصورة عبر الفيديو، كنموذج حى على زوال آخر دافع للحنين. ها هو المغترب يرى عائلته وأصدقاءه ويتحدث إليهم، بل ويشاهد أماكن معيشتهم فيعيش مرة أخرى ولو للحظات فى غرفته التى كان يعيش فيها ويشاركهم الاجتماع حول مائدة الطعام ويحضر حفلات أعياد الميلاد وغيرها من المناسبات، ولكن يبدو أن وسيلة الاتصال هذه التى تذكر المغترب بقطع الأثاث ومواقعها وبأركان مألوفة فى البيت والأشكال والوجوه والأطفال الذين شبوا والكبار الذين هرموا هى نفسها التى تجدد الحنين وتثير معاناة أشد من تلك التى كانت تثيرها الرسالة البريدية. يبدو أن السكاى بى، وما شابهه من وسائط إلكترونية متطورة يتسبب فى تعميق الشعور بالحنين حين يتأكد المغترب بالصوت والصورة أنهم يعيشون حياة عادية بدونه ويستمتعون ببعضهم البعض، وتتأكد أمه أنه يمارس حياة عادية ولا يبدو عليه أنه فى حاجة ماسة لرعاية وحنان.

 

●●●

 

الحنين، أو النوستالجيا، هو نوع من أنواع الحزن يتسبب فيه الابتعاد عن الوطن أو البيت. وفى تعريف آخر هو اشتياق مصحوب بالأسف على زمن مضى وأحوال تغيرت. علمتنا كتابات أساتذة النقد الأدبى أن اللورد بيرون أبدع فى صياغة معانى النوستالجيا، فالحنين عنده كان خليطا من الحزن والذكريات والخيال. عاش فى وقت شهد فورة فى اغتراب الاسكتلنديين عن وطنهم حين خرجوا يستعمرون بلادا عديدة من ايرلندا شمالا إلى أفريقيا جنوبا حتى الهند شرقا. كان عصرا بلغت فيه التناقضات أقصاها. بالغ فيه المغتربون فى استخدام العنف والوحشية ضد الوطنيين، وعانوا فيه مرارة النوستالجيا إلى أوطانهم وأهاليهم. جاء بعد بيرون كثيرون ساروا على دربه فى قوة التعبير عن مشاعر الحنين بينهم أدباء ومفكرون مثل كونراد وجويس ونايبول وشيللى وإدوارد سعيد.

 

يرفع بعض المفكرين الذين احترفوا العولمة مهنة أو اعتنقوها عقيدة شعارا يرددونه ويمارسونه وهو شعار «كل الأوطان وطنى». ويختلف الناس حول هذا الشعار وينقسمون فريقين. فريق يعتقد أن الحنين لا يكون إلا لبلد واحد وهو الوطن. وفريق يعتقد أن الحنين هو «نوستالجيا» للحظات وتصرفات وظروف بعينها. أعرف مغتربا يحن إلى طريق يحاذى قناة أو نهرا وعلى جانبيه أشجار كثيفة ويكاد يخلو من المارة والسيارات إلا من بائع مشروبات غازية وبائع «سميط» وجبنة رومى وبيض مسلوق، كلاهما ينادى على بضاعته بصوت خفيض ومن «عوامة» على البعد يصل ناعما صوت أم كلثوم تشدو بألف ليلة وليلة أو سهران لوحدى، أعرفه جيدا لأنه منذ أن اغترب وهو يصرح لى، وآخرها الأسبوع الماضى، بحبه وحنينه إلى تلك اللحظات وذلك الطريق ورفيق الطريق. هذا هو الوطن الذى يحن إليه.

 

●●●

 

لم أعرف مغتربا أو مواطنا غلب عليه الحنين إلى أيام وبلاد عانى فيها البؤس والقمع والظلم. الحنين لا يكون إلا للحظات سعيدة وقلوب دافئة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved