الشعب يريد بنيامين نتنياهو!

داليا سعودي
داليا سعودي

آخر تحديث: الجمعة 27 مارس 2015 - 9:15 ص بتوقيت القاهرة

قال الشعبُ الإسرائيلى ُكلمتَه:اخترناه اخترناه!وللمندهشين من فجور نتنياهو السياسى فى انتخابات بلاده، أبدأ حديثى بحكاية.

•••

كان اسمها بعدُ فى ذلك اليوم الخريفى من عام 1995 «ساحة ملوك إسرائيل».وكان مئات المنخدعين بربيع اتفاقات أوسلو قد تجمعوا فيها وفرغوا لتوهم من إنشاد لحن فى مديح السلام.عندئذٍ،اقترب إيجال عامير من هدفه، وأطلق عليه ثلاثَ رصاصات، فى غفلة ــ قيل ــ من حرس «الشين بيت»، لتتسمى الساحة باسم القتيل، فتصبح منذئذٍ «ساحة إسحق رابين». تبادرت الحادثة إلى ذاكرتى فيما كان القاتل يخطب فى «ساحة رابين» عشيةَ الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة،مؤكدا فى بيانٍ لاحقٍ أنه لن يسمح بقيام دولةٍ فلسطينيةٍ لو أعيد انتخابُه رئيسا للوزراء لفترة رابعة، وقاتل رابين الذى أعنيه ليس اليد التى نفذت،بل العقل الذى دبر،و اللسان الذى حرض، والمنطق الذى خوَّن، لمنع تنفيذ مبدأ الدولتين.

تلك توطئةُ الحكاية.. مهلاً مهلاً يا سادة يا كرام!

•••

كمولودٍ جاء إلى الدنيا مبتسرا، جاءت اتفاقات أوسلو مفرغة من كل مضمون.وللتمادى فى عرقلة قيام دولة فلسطينية، تم اختراع أكذوبة المفاوضات.و استمر سلاح القمعو التقتيل والتشريد سيفا مسلطا فوق رقاب الفلسطينيين، وسلطتهم «المؤقتة».

لكن أحدا لا يعلم حتى الآن كيف تحول إسحق رابين فجأة فى آخر أيامه من ذلك الوحش الضارى الممانع لأوسلو حتى بعد توقيعها، الذى عُرف بتاريخه الأسود الطويل فى تكسير عظام العرب فى شتى الحروب منذ 1948، إلى ذلك المنتقد الصارم لجيش الاحتلال وللمستوطنات وللتمييز، المتعاطف مع ضحايا الانتفاضة إلى حد الدفاع عنهم وعن حقوقهم من على منبره داخل الكنيست. لا أحد يعلم كيف تم ذاك التحول.ربما هى صحوةُ ضميرٍ مثقلٍ بالآثام، أو لعلها حكمةُ القدير الذى أراد من عليائه السرمدية أن يضرب لنا الأمثال.

يحكى الكاتبُ الفرنسى الراحل إريك رولو فى مذكراته كيف تعالت الأصوات تقذف باللعنات على رأس رابين «المارق» الذى «جرؤ على مساواة الدم اليهودى بدم العرب الإرهابيين»، وكيف التقط زعيم الليكود الشاب وقتها بنيامين نتنياهو رائحة الغنيمة السياسية، فلاحق رئيس الوزراء بحملة تشهير حشد فيها من حوله الأحزاب الدينية اليمينية المتطرفة التى كفَّرت رابينو توعدته بجهنمو بئس المصير. ظل نتنياهو يطارد شريك عرفات بحنجرته الديماجوجية، ويُنظِّم المظاهرات ضد «رئيس الوزراء الخائن«،«العميل النازى»، «عدو الشعب اليهودى» المفرِّط فى «أرض الأجداد»، «الكافر بالتوراة»، وظل المتظاهرون يخرجون وراء بى بى بصور رابينو قد رُسمت كهدف للرماية، وإن هو إلا شهر واحدو أُرديَ الرجلُ قتيلاً، ولم يأتِ من بعده من صدقت نواياه فى التنازل قيد أُنملة للفلسطينيين.

•••

ذلك هو الدرك الأسفل الذى اعتاد أن ينزل إليه نتنياهو من أجل تصفية خصومه، ومن أجل تعميم يهودية الدولة، وفرض عنصرية الدم، وبسط طموحه الصهيونى داخل «إسرائيل الكبرى»، وعلينا ألا ننسى أن هذه الانتخابات المبكرة قد نشأت إثر إقالته وزيرة العدل ووزير المالية، لرفضهما التصديق على مشروع قانون ينص على تعريف دولة إسرائيل على أنها دولة الشعب اليهودى حصريا، وعلى أن المواطنين اليهود هم وحدُهم المتمتعون بكامل حقوقهم القومية دون عرب إسرائيل الذين لا يتمتعون إلا بحقوقٍ فردية.

وهو ما يعنى أن هذه الانتخابات التى تمت هى فى جانب كبير منها اقتراعٌ شعبى على هوية الدولة، وعلى مدى احترامها لمبادئ الديمقراطية، وعلى رغبة الإسرائيليين فى السلام. بما يعنى أن إعادة انتخاب نتنياهو يعد بمثابة تصديق الجزء الأكبر من الشعب الإسرائيلى على تكريس الدولة الفاشية العنصرية. فهل «يستحق هذا الشعب نتنياهوو يستحق نتنياهو شعبه ؟«وهل المطلوب لإدراك السلام هو «تغيير الشعب»، على حد ما كتب جدعون ليفى ساخرا متحسرا، فى صحيفة هآرتس صبيحة إعلان نتيجة الانتخابات؟

•••

لقد شهدت «ساحةُ إسحق رابين» فى السابع من مارس الماضى أكبر تظاهرة طالبت برحيل بنيامين نتنياهو، ونادت بالتوصل إلى اتفاق سلام. لكن السيف كان قد سبق منذ أمدٍ العزل، فالأعوام الستة التى مضَّاها نتنياهو على رأس السلطة كانت كفيلة بإجراء عملية انزياح قصرى للرأى العام باتجاه أقصى درجات اليمين تطرفا. انزياحٌ أتبعه ارتياحٌ شعبى لكل حل أمنى تقدمه إسرائيل فى مواجهة كل خلاف سياسى. وواكبه استحسانٌ ومزايدةٌ وتصفيقٌ لكل إهانةٍ موجهةٍ للعرب، باسم العنصرية المتخفية فى رداء الوطنية، ولعل أكبر دليل على ذلك هو تجاوب الناخبين مع نداءات نتنياهو المستميتة يوم الانتخابات من أجل «إنقاذ اليمين» من الناخبين العرب، الذين «يزحفون» بحسب تعبيره العسكرى «أفواجا باتجاه لجان الاقتراع»! وهى النداءات التى وجهها على مواقع التواصل الاجتماعى مرفقة بخريطة للدولة العبرية، إمعانا فى إكساب حملته «الديمقراطية» طابعا حربيا!

ومجاراة للذوق السياسى العام،و تملقا للألون القومية المتشددة الغالبة، انزاحت أطيافُ المشهد السياسى الإسرائيلى هى الأخرى يمينا. وليس أدل على ذلك من أن يخرج حزب «العمل» التاريخى إلى ناخبيه أخيرا تحت مسمى «المعسكر الصهيونى»، بما يعنى مجاهرته باستبعاد عربَ إسرائيل من حسبانه، وهم من يمثلون خمس المواطنين، فباختيار هذا الاسم، (المعسكر الصهيونى)، يقول رموز «اليسار» ضمنا لناخبيهم: نحن لسنا أقل صهيونية من اليمين، ولا نحن أقل نبذا للعرب، وحرصا على نقاء قوميتنا، وعزما على الدفاع عن أمننا القومى.

ولا غرابةَ فى سقوط الأقنعة. فمنذ عهد بن جوريونو اليسار الإسرائيلى صهيونى، وليس اشتراكيا، وبحسبنا لإدراك مبلغ العطب العنصرى فى صفوفه أن نشاهد أحد الإعلانات الانتخابية لزعيمها الباهت إسحق هرتزوج، يصفه فيها أحد معاونيه، قائلاً: «هرتزوج نشأ داخل المخابرات العسكرية، بما يعنى أنه على دراية بعقلية العرب، وهو الذى عاين العرب فى مختلف المواقف، فرآهم فى مرمى البندقية، ورآهم وهم يحملون البندقية، وأهم ميزة مطلوبة فى القائد هو أن يعرف كيف يجدر بدولة إسرائيل أن تتصرف. سواء كان التصرف هو إطلاق صاروخ، أو نشر قوات، أو محو أولئك القوم كليا من على وجه الأرض».

هذا هو الخطاب الترويجى لمن يقدمون أنفسهم على أنهم البديل المتاح لنتنياهو فيما يسمى بعملية السلام، ولن أتحدث عن تسيبى ليفنى شريكة هرتزوج اليوم، و وزيرة نتنياهو بالأمس فى حرب غزة 2014،و المطلوبة بموجب مذكرة توقيف بريطانية لجرائم حرب فى غزة 2012.

فلماذا يختار الشعب الإسرائيلى «اليسار» طالما هو نسخةٌ مأخوذةٌ عن اليمين؟ لماذا يختار الصورةَ فيما الأصلُ حاضرٌ وطاغٍ ومستقر؟ على حد ما تساءل المؤرخ الصهيونى زيڤ سترنهيل.

•••

فى ساحة «إسحق رابين»، قبل يوم واحد من الانتخابات، وقف بنيامين نتنياهو من وراء زجاج مضاد للرصاص يهاجم الإرهاب وإيران وداعش وحماس، مستعيدا فحوى الخطاب النارى الذى ألقاه فى الكونجرس فى مطلع الشهر. وحده نتنياهو يتقن تلك الخلطة السرية السائغة للناخبين، الجامعة بين استثارة خوف العامة، وإبداء أقصى درجات الوقاحة فى مواجهة المجتمع الدولى.

لكن خطاب الكونجرس لم يكن فقط للاستهلاك الانتخابى فى إسرائيل، وإنما كان خدمة جليلة للأصدقاء الجمهوريين فى أمريكا بهدف الهجوم على أوباما وإدارته وتثبيط مساعيه فى اتفاقه مع إيران. والراجح أن هذا الظهور المدوى لبى بى فى الكونجرس قد تم بإيعاز من الميلياردير شيلدون أديلسون، عراب اليمين المتشدد فى أمريكا وأكبر ممولى الليكود فى إسرائيل، صاحب ثالث أضخم ثروة فى الولايات المتحدة جمعها بامتلاك عدد كبير من ملاهى القمار فى عاصمتى الفجور لاس فيجاسو مكاو. وكان أديلسون هو من مول حملة ميت رومنى ضد باراك أوباما فى 2012. وهو يمتلك صحيفة «إسرائيل اليوم» اليومية المجانية الداعمة لنتنياهو. هكذا يعد أديلسون رئيس الوزراء الحقيقى لإسرائيل، الذى جعل من بنيامين نتنياهو سناتور عن الولاية الأمريكية الحادية والخمسين، على حد تعبير أڤراهام بورج، الرئيس الأسبق للكنيست وللوكالة اليهودية.

لذلك لا يكترث نتنياهو بالمرة لغضب سيد البيت الأبيضو جوقة الاتحاد الأوروبى، حتى وإن بدا متراجعا فى تصريحه الرافض لحل الدولتين. فهو فى حقيقة الأمر، مطمئن تمام الاطمئنان إلى أن الإدارة الأمريكية لن توقف بأى حال من الأحوال دعمها العسكرى والسياسى لدولته، لكونه يعول على الأغلبية الجمهورية فى الكونجرس، حتى وإن اضطر لاستعداء الديمقراطيين ولتحريرهم من وعودهم لإسرائيل.

ولا يهم الوضع الكارثى على الأرض، واستحالة قيام الدولة الفلسطينية عمليا بعد أن توحش الاستيطان طوال السنوات الماضية، وكبرت المستوطنات وصارت مدنا، وبات المستوطنون أجدادا لأسر كثيرة الأبناء والحفدة، وعاد الشقاق الأبدى يطل برأسه بين فتح وحماس، وحبست الحكومة الإسرائيلية أموال الضرائب عن السلطة الفلسطينية، وتوقف التنسيق الأمنى بين رام الله وتل أبيب، وباتت الذريعة جاهزة لاجتياح الضفة الغربية من جديد، واستعادة «يهوداو السامراء»، ذلك الحلم الذى يراود نتنياهو منذ ولج إلى عالم السياسة، وهو الحلم الذى سيتحدث عنه فى فيلم سيذاع قريبا، بعنوان «باسم الهيكل» مخرجه هو الصحفى الفرنسى الصهيونى «شارل إندرلن»، صاحب السبق الشهير فى تغطية مقتل محمد الدرة.. هل تذكرون الدرة؟

ما عاد كل ذلك يهم. إذ إن نسبة تُقدر بنحو 63.5 % من شعب إسرائيل باتت تؤمن بأن عملية السلام مع الفلسطينيين قد ماتت ودفنت، وها هو بنيامين نتنياهو يستعد لاستقبال رئيس مجلس النواب الأمريكى جون بَينر القادم للتهنئة والمباركة. فلا شىء يعدل لحظة الاحتفال بالنصر!

أكاديمية وكاتبة مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved