سياسة خارجية بدون دوائر استراتيجية

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 27 مايو 2010 - 9:41 ص بتوقيت القاهرة

 منذ أن انكشفت فضيحة الاتفاقية الإطارية لدول حوض النيل ونحن نقرأ عجبا عن السياسة الخارجية عموما والمصرية خصوصا. أتفهم حاجة بعض المسئولين إلى تبرير الشلل الذى أصيبت به الدبلوماسية المصرية، وأتفهم حاجة بعض الإعلاميين والأكاديميين إلى التلاعب بالمبادئ والقواعد العامة للسياسة الخارجية لاكتساب حظوة لدى صانع سياسة لم يلتزم المبادئ ولم يحترم القواعد. كانت النتيجة، كما نرى، ويرى أهل الجوار جميعا، وخيمة.

تلوثت سمعة الدبلوماسية المصرية فى الخارج فى وقت يشهد صعودا مشرفا لدبلوماسيات تركية وبرازيلية وجنوب أفريقية وإيرانية وهندية، وتراجعت مكانة مصر مسافة أخرى فى وقت يشهد صعودا فى مكانة عدد من الدول النامية، عربية وآسيوية على حد سواء.

قرأنا خلال الأيام الماضية لمن يلقى بالمسئولية على من قصروا فى الدفاع على مصالح مصر فى أفريقيا حين فضلوا عليها الانشغال بقضايا عاطفية مع دول المجموعتين العربية والإسلامية، وقرأنا عن ابتكارات ناتجة عن ضيق أفق أو جهل بأساسيات مصالح مصر القومية لمفاهيم فى السياسة الخارجية مثل مفهوم الدولة التى نذرت نفسها وشعبها ومصالحها لقضية واحدة، وهى سلامها مع دولة أخرى، سلام يعتمد على استقرار أمن الدولة الأخرى ويحترم إطراد قوتها ونفوذها الإقليمى والدولى، مفهوم ابتكرته ورش صناعة القرار فى مصر ولا أظن أن التاريخ الدبلوماسى المعاصر سجل سابقة له فى أى عهد من عهوده منذ عهد ميترنيخ إلى عهد هيلارى كلينتون.

قيل فى مجال إلقاء اللوم على حكومات مصر قبل ثلاثين أو خمسين أو ثمانين عاما، إن الدوائر الثلاث، الأفريقية والإسلامية والعربية، التى اعتمدتها الدبلوماسية المصرية فى مرحلة من المراحل مسئولة عن تشتت الجهد السياسى المصرى فى الخارج، وقيل إننا تفرغنا لصنع سياسة خارجية فريدة فى نوعها اهتمت فقط بالصراع الدولى بين القطب السوفييتى والقطب الأمريكى، بما يعنى أننا أهملنا الدوائر الثلاث.

وخرج من يقول إننا حين ركزنا على صراعنا مع إسرائيل أضعنا بدون جدوى بعض عمر مصر وأهلكنا اقتصادها وتراجعت قوتنا وتبدد نفوذنا الخارجى حتى تضررت المصالح المصرية فى أفريقيا.

ولكن أعجب ما قيل، قاله مسئولون عن صنع السياسة الخارجية وقيادة الدبلوماسية بينما كانت ورطتنا مع دول الحوض تتفاقم وكانت أرصدتنا فى جميع دول المغرب والمشرق تشهد انهيارا فى قيمتها، حين أكدوا أن السياسة الخارجية لمصر بخير، وأن «مصر مازالت فوق الجميع» وأن أمن مصر القومى مصان لم يمسه ضرر ولم يصبه أذى. أجدى بهؤلاء أن يطلبوا محاضر ندوات ومؤتمرات إقليمية ودولية تناقش حال العرب والمسلمين عامة ومصر بخاصة ومسئوليتها عن هذه الحال، أجدى بهؤلاء أن يؤذى سمعهم ما آذى حين شد على يدى أحد كبار العلماء من أصل مصرى قائلا «شدة وتزول».

استغرب حال التدنى التى انحدر إليها «فكر السياسة الخارجية المصرية» وحال التردى التى تهاوت إليها منظومة السياسة الخارجية، كنت على استعداد للترحيب بمن يغزو حال سياستنا الخارجية لأسباب قاهرة، مثل أن نقول إن أزمات اقتصادية كبلت حرية دبلوماسيتنا فى الحركة، أو أن تلقى باللوم على عجز فى موازنة وزارة الخارجية وغيرها من أجهزة صنع السياسة، باعتبار أن هذا العجز حرمنا من استقطاب شباب متميز علما وأخلاقا ولغات ليعمل فى بعثاتنا الدبلوماسية بالخارج، أو ليخطط ويحلل ويرسم مشاريع سياسات تخدم مصالحنا إقليميا ودوليا. كان يمكن أن يلمح لنا مسئول أو آخر بأن المسئولين عاجزون عن صنع سياسة خارجية متناسبة ومجدية لأن إرادتهم ليست حرة، وأن قوى خارجية وضعت لنا حدودا لا نتجاوزها أو تطالبنا بالتزام طريق السلبيات تفاديا لطريق العقوبات أو ضمانا لاستمرار حوافز ومكافآت لا تستفيد منها إلا قشرة فى الطبقة الحاكمة.

تذكرت، وذكرت صديقى المسئول الكبير بيومين قضيناهما مع عدد من الأكاديميين المتخصصين فى علم العلاقات الدولية، وبالتحديد فى فرع السياسة الخارجية. التقينا فى منتجع كان جميلا قبل أن تمتد إلى جماله مع أيادى الجشع والفساد يد القبح الأسمنتية. وكان موضوع لقائنا سياسة مصر الخارجية عبر التاريخ، وأظن أننا خرجنا باجتهادات، أعرف بالتأكيد أن باحثين جاءوا فى وقت لاحق لم يخرجوا بمثلها ولم يفندوها، وصارت مرجعا من مراجع السياسة الخارجية المصرية. توصلنا إلى أن السياسة الخارجية المصرية كانت تنشط فى عصور الازدهار.

تنشط عندما يزدهر فن المعمار. وتنشط عندما تزدهر التجارة الداخلية والخارجية، وتنشط عندما تعم الراحة والسكينة أرض الوطن وعندما ترتقى المعرفة والأخلاق وينحسر الجهل وعندما يقود البلاد رجال طموحون للنهضة والرقى الإنسانى يحيطون أنفسهم بأقران أقوياء وليس بخدم أو عبيد. قرأنا سيرة حكم أحمد بن طولون، وكانت أول سيرة بين عشرات السير التى توقفنا عندها وتعمقنا فى فهمها.

كان بمصر سياسة خارجية رشيدة ومستقرة وفاعلة فى زمن لم يكن نظام الدول قد نشأ بعد، كانت لمصر معاهدات وتحالفات مرنة مع المدن الأوروبية العتيدة، وكانت لها بعثات دبلوماسية بعضها دائم وبعضها مؤقت لدى طبقات حاكمة فى غرب أفريقيا والصحراء الكبرى وفى شرق أفريقيا. حفلت سجلات التاريخ الدبلوماسى المصرى بعلاقات خارجية فى عهود لم تكن مصر فى أغلبها دولة مستقلة، ولكن تصرف حكامها باستقلالية وإرادة قوية، وما زالت سير بعض حكام المماليك شاهدة على ذلك.

قرأت انتقادا لنظرية أو عقيدة الدوائر الثلاث التى قيل إن عبدالناصر ابتدعها. وكدارس للسياسة الخارجية أعرف أن عبدالناصر لم يبتدعها. ولا أعرف من ابتدعها ولكن أعرف جيدا أن الدوائر نظرية لصيقة بالسياسة الخارجية منذ فجر العلاقات الدولية، وبالسياسة الخارجية المصرية فى العصر الملكى، إذ إنه من البديهى أن يكون لكل حاكم أولوياته النابعة من رؤيته لمصالح بلاده.

تظهر هذه الدوائر عندما يكون الحاكم قد انتهى من ترتيب مصالح بلاده كما يراها حسب أهميتها وبعد تحديد مواقعها ومصادرها خارج حدود بلاده، ويكون أيضا قد انتهى من تعريف أعداء بلاده كما يراهم حسب خطورتهم وتهديدهم أمن بلاده ومصادر قوتها ورخائها فى الداخل والخارج.

يبدو منطقيا الآن أن فراعنة مصر فى العصر القديم حين رتبوا مصالحهم نهريا وأفريقيا ومشرقيا لم يرتبوها حسب الهويات ولم يرتبها حكام الإغريق فى آسيا الصغرى وجزر المتوسط وشمال أفريقيا حسب الهويات ولا يرتبها خامنئى وأحمدى نجاد فى منطقة الخليج ووسط آسيا وبلاد الرافدين وأفريقيا وأمريكا اللاتينية حسب الهويات.

ويخطئ من يظن أن عبدالله جول وأردوغان ونخبة العدالة والتنمية فى تركيا رسموا دوائر هويات إسلامية وتركمانية وأوروبية عندما خططوا لسياسة خارجية جديدة.

وأظن أن لولا دا سيلفا عندما توجه ذات يوم إلى مصر بدعوة للمشاركة فى تأسيس مجموعة من دول الجنوب لتكسر احتكار مجموعة السبعة الكبار. واعتذرنا فى مصر أو ترددنا أو طلبنا وقتا للتدبر، لم يكن مدفوعا بتأثير دوائر هويات. كل هؤلاء قرروا أن تخضع سياساتهم الخارجية لمنطق الدوائر الإستراتيجية، أى أولويات تخدم مصالح الأمة، وقد يتصادف أن تنطبق دوائر استراتيجية على هويات ولكن لم يكن شرطا، فى معظم الحالات، أن تعبر الدوائر عن هوية أو أخرى.


اسأل المسئولين عن صنع السياسة الخارجية المصرية أو المسئولين عن تنفيذها، أين دوائر السياسة الخارجية المصرية الراهنة، أين أولوياتها الاستراتيجية؟ هل كان حوض النيل واحدة من هذه الدوائر، أم اليونان وإيطاليا وأوروبا المنحسرة القوة سياسيا واقتصاديا، أم دول شرق وجنوب آسيا الناهضات بشموخ وقوة، أم مجموعة بريك BRIC، التى أربكت سياسات دول عظمى بصعودها السريع ودورها المتصاعد فى السياسة الدولية، أم الساحة العربية التى يتزاحم على إدارة شئونها وصراعاتها وصنع مستقبلها ثلاث دول إقليمية غير عربية منذ أن تنازلت مصر عن أغلب أرصدتها ومصادر قوتها فيها، الناعمة والصعبة على حد سواء، وتركتها، وفيها مصالحها، للدول الثلاث ساحة مباحة وسكتت ثم اختفت بعد أن كانت ملء السمع والبصر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved