«داعش» كوريث للنظام العربى: مصادرة الحاضر واغتيال المستقبل

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 27 مايو 2015 - 9:50 ص بتوقيت القاهرة

يعيش المواطن العربى فى المشرق خاصة، وعلى امتداد مساحة الوطن العربى الكبير، عموما، حالة من الذهول وهو يشهد اغتيال مستقبله بعد مصادرة حاضره.

تتهاوى «الدولة» فى العديد من الأقطار العربية، ولا سيما فى المشرق، وبينها تلك التى كتبت الصفحات الأولى فى التاريخ الإنسانى، أو حملت راية الإسلام لتنشره فى البلاد البعيدة.. وتتمزق المجتمعات فيها عائدة إلى صورتها قبل الدولة: مذاهب وطوائف تتنازع الشعار الإسلامى، وقبائل وعشائر وبطونا وأفخاذا وعائلات ودهماء، خصوصا وأن الأحزاب السياسية قد تمّزقت وتوزعت فرقا، بينها من استوعبته أجهزة المخابرات وبينها من ذهب إلى التقاعد المبكر يأسا من الحاضر وهربا من المسؤولية عن المستقبل، فى حين اندفع القسم الأخير عائدا إلى «تحت الأرض» بأمل إنجاز «انقلاب» يصحح المسيرة ويحقق الأحلام.

اغتالت السلطة الدولة بمؤسساتها جميع باسم الحزب. لكن الصراع على السلطة ضرب وحدة الحزب فتشقق وتفرع أحزابا ومنظمات سرية... وأنهكت الصراعات الدولة خصوصا وقد وصلت إلى الجيش والمؤسسات الأمنية، فصار بعضها فى عهدة «الرئيس القائد»، له الحظوة فى الامتيازات والترقيات والسيطرة على المواقع الحساسة، بينما أُهمل البعض الآخر فصار مجرد أعداد من المجندين إجباريا المرميين عند الأطراف بعيدا عن مفاتيح السلطة. صارت «القوة الضاربة» فى حراسة مركز السلطة، أى الرئاسة.. لها التجهيزات الحديثة فى السلاح والاتصال، ولها الموازنات المحترمة والامتيازات بينما الكتلة العظمى من القوات المسلحة تعانى من إهمال متعمد وسوء معاملة يكاد يجعلها فى مرتبة الخدم.

•••

اختُصر «الشعب» بشخص «القائد»، ثم أضفيت القداسة على «القائد» فرفع فوق البشر، فصار مجسدا للذات الإلهية، لا يطاله النقد ولا هو يقارب الخطأ، ثم إنه لا يحول ولا يزول بل هو باق ومستمر، متجدد بفرادته، يعرف كل شىء عن كل الناس فى كل الأمكنة، هو الوطن والدولة، الجيش والشعب، المعلم والعالم بالغيب والذى على كل شىء قدير.

.. وكان على «الشعب» أن يذوب، بل أن يذيب نفسه فى «القائد» تاركا له حق القرار فى أى أمر وكل أمر، بدءا من التموين وتوفير فرص العمل إلى مشاريع التنمية واستثمار موارد البلاد، وصولا إلى مواجهة الأعداء أو من يراهم أعداء، بقرار الحرب، سواء أكانوا فى الداخل أم يستعدون فى المحيط القريب لاقتحام الداخل.

كان «الشعب» يعرف أن تنظيمات أصولية تنمو وتتكاثر فى مختلف أنحاء البلاد، لا سيما فى سوريا والعراق وبعض الجزيرة والخليج، وأنها تضرب على وتر المظلومية الطائفية، والاضطهاد المذهبى. وكان يفترض أن النظام يعرف تفاصيل التفاصيل، وأنه لا بد سيتحرك فى اللحظة المناسبة، وأنه سيستدعيه ليشارك فى المواجهة لاستنقاذ «الدولة العلمانية» بشعاراتها الجليلة: الديمقراطية ووحدة الشعب بمختلف مكوناته، انطلاقا من أن الدين لله والوطن للجميع.

... وحين خرجت إلى السطح تنظيمات مسلحة متفرعة عن «القاعدة» مثل «جبهة النصرة» كان «الشعب» يعرف أن ثمة تنظيما أقوى وأخطر يتحرك تحت الأرض ويستعد لأن يباغت النظام سواء فى سوريا أو فى العراق أو فى جهات أخرى فى المغرب العربى وبعض أفريقيا. وكان يسمع ويرى تصرفات لا يفهمها ولكنه ينسبها إلى عبقرية أجهزة المخابرات فى توظيف التنظيمات الأصولية بعضها ضد البعض الآخر، إلى أن وقعت الكارثة فى الموصل: لقد خرج «داعش» من تحت الأرض بقوة مهولة، اجتاز الفيافى والقفار على امتداد مئات الكيلومترات، من دون أن تراه أجهزة المخابرات المختلفة، عربية ودولية، ومن دون أن يقاومه آلاف مؤلفة من الجنود على امتداد طريقه الطويل، ولا فى العاصمة الثانية للعراق بملايين سكانها والعديد من الفرق العسكرية الموجودة فيها ومن حولها، بل استسلم الجميع فى حين هرب القادة تاركين خلفهم أسلحتهم الثقيلة من دبابات ومدفعية وصواريخ، إضافة إلى خزينة الدولة وفيها بضع مئات من ملايين الدولارات.

•••

ومن الطبيعى أن يصيب الذهول هذا المواطن الذى كان يفترض إلى ما قبل سنوات قليلة أنه ـ أقله ـ فى أمان (بالمعنى العام). وأن فى المشرق «دولة» مهابة تتباهى بقوتها فتجتاح بها دولا أخرى بعضها أكبر منها (مثل تجربة صدام حسين فى حربه على إيران، قبل أن يقامر بجيشه ووطنه فى غزوة الكويت)، ودولة أخرى ذات رصيد محترم فى الاستقرار وحكمة القيادة، بحيث تستدعى لنجدة دولة شقيقة ضربها زلزال الحرب الأهلية (تجربة سوريا فى لبنان).. فإذا هو الآن يفتقد وجود هاتين الدولتين بعدما كانتا «المركز» فى المشرق العربى ومركز القرار.

•••

عليه الآن أن يتأمل الخريطة جيدا: لقد اقتطع «داعش» لدولته أكثر من ثلث مساحة الجمهورية العراقية وأكثر من نصف مساحة الجمهورية العربية السورية متجاوزا الحدود والسدود وغارات طيران التحالف التى تخترق طائراتها الفضاء على مدى الساعة، من دون أن تتغير الوقائع على الأرض.. بل إن المساحة التى تسيطر عليها قوات «داعش» لا تفتأ تتعاظم متمددة من حدود تركيا إلى حدود الأردن، مقتربة فى العراق من العاصمة بغداد، ومقتربة فى سوريا من العاصمة دمشق، بغير أن تلقى المقاومة المفترضة، والتى يسهل تبريرها بالإشارة إلى أن جيش العراق مفكك ومازالت إعادة بنائه تواجه مصاعب شتى، أخطرها الانشقاق الطائفى والمذهبى الذى ضرب وحدة العراق.. وأن جيش سوريا منهَك بعد أربع سنوات ونيف من المواجهات والمعارك المفتوحة بامتداد الأرض السورية، مع معارضات شتى مدعومة بالمال والرجال والسلاح من تركيا وبعض أقطار الخليج العربى، ومعززة بـ«مجاهدين» وجدوا من يستدعيهم فيجمعهم ويدربهم ويمول تسليحهم ثم يدفع بهم عبر حدود تركيا أو الأردن (وحتى إسرائيل) إلى مواجهات تتوسع جبهاتها باستمرار لتشتيت قوة الجيش السورى وإنهاكه.

•••

أخطر من تهاوى الدول فى المشرق العربى تمزّق المجتمعات فيها، بفعل فاعل، وعودتها إلى صورتها الأولى قبل الدولة: طوائف ومذاهب تنتسب، فى الأصل إلى دين واحد، وأقليات طائفية وعرقية وقبائل وعشائر ببطون وأفخاذ، يدفعها الخوف من المجهول الذى بات قائما على الأرض ومعروفا، إلى الاهتمام بمصيرها بعيدا عن الوطن ودولته والأمة وهويتها ورايات عزتها.

ويتبدى «داعش» الآن غولا أو وحشا أسطوريا هائلا قادرا على ابتلاع الدول التى أنهكتها أنظمتها بالحروب أو ببعدها عن شعبها ومطامحه.. و«داعش» يكاد يكون «فى هذه اللحظة»، أكبر دولة عربية، فى مساحتها على الأقل التى تمتد من حدود العراق مع إيران إلى قلب سوريا، غير بعيد عن دمشق، مع تمدد إلى الحدود مع تركيا شمالا.. كذلك تتبدى وكأنها «أقوى دولة» فى هذه المنطقة العربية، فى تماسكها ووحدة قرارها وغناها، بعد نهبها الموصل وسيطرتها على العديد من حقول النفط فى بعض العراق وسوريا.

ومما يزيد فى قوة «داعش»، قبل التساؤل عن مواقف الدول، عربية بعنوان السعودية وأقطار الخليج، وأجنبية بالعنوان الأمريكى المباشر، هذا الصراع المذهبى الذى تنفخ فيه جهات شتى، بعضها أبناء شرعيون للأنظمة المعنية، فى سوريا والعراق، والذى فتح الطريق أمام غزوات «داعش» ومكّنه من احتلال مساحات بحجم دولة تزيد مساحة عن سوريا ذاتها أو عن العراق، خصوصا إذا ما استثنينا منه «دولة البرازانى» الكردية فى الشمال..

•••

إن الصراعات المذهبية، ظاهرة أو مكتومة، كانت أعظم سند لغزوات «داعش».. فالفتنة تفتح الطريق أمام جحافله، وغفلة السلطة المشغولة بأمن النظام أكثر من اهتمامها بأمن البلاد وأهلها جميعا، توفر له حرية الحركة واجتياح المزيد من الأراضى (حتى لو كانت بيداء وصحارى).
لقد مكن التهاون والغفلة أو الإهمال أو القصور أو الاعتماد على «التحالف الدولى» «داعش» من احتلال آلاف الكيلومترات من أراضى العراق وسوريا بلا قتال.

... وبعد سقوط المناطق بمدنها والقرى وأريافها لم ينتبه أحد إلا بعد سقوط تدمر، درة الحضارة ومهد التقدم الإنسانى بملكتها المستنيرة «زنوبيا»، فهبّ الجميع يرثى الآثار ـ الشاهدة على التاريخ المجيد، فى حين ذهب آخرون إلى التذكير بالسجن الشهير فيها للمحكومين أحكاما بالسجن لمدد طويلة.

.. والنتيجة: لقد ضاعت البلاد، وحقق «داعش» بعض شعاره فى «الدولة الإسلامية فى العراق والشام»... وصارت استعادتها، أقلّه فى المدى المنظور، مهمة فى غاية الصعوبة، قد تضطر الأنظمة إلى طلب النجدة من جيوش الاحتلال الأجنبى، بالعنوان الأمريكى الآن..

•••


لقد عجزنا عن حماية الحاضر، وها هو المستقبل يكاد يضيع منا، بينما عصابات الإرهاب الآتية من الجاهلية تعيدنا إليها وتفرض علينا أن نعيش خارج حركة تاريخ التقدم الإنسانى.
والخوف على المستقبل أقسى إيلاما من الواقع الحاضر المتردّى: لا قائد ولا قيادة. لا إجماع ولا توافق شعبيا. السلطة المتهاوية فى مكان والشعب فى مكان آخر، والمسافة بينهما شاسعة بحيث يصعب تلاقيهما مجددا.

مع ذلك لا بد من استيلاد الأمل، الأمل بالشعب ووعيه وحرصه على وطنه وعلى مستقبل أبنائه فيه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved