طلاق بريطانيا سيكون مكلفا

صحافة عربية
صحافة عربية

آخر تحديث: الإثنين 27 يونيو 2016 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

لم يكن الزواج البريطانى الأوروبى زواجا ناجحا منذ البداية. العريس كان ينتظر شيئا والعروس شيئا آخر. هى كانت تسعى وراء المصلحة الاقتصادية والأموال التى يمكن أن تأتى إلى محفظتها من هذه السوق التجارية الواسعة، فيما العريس كان يأمل بأن تؤدى هذه التجربة من المساكنة الطويلة، مع الوقت ومع تقدم العمر، إلى اقتناع العروس بفضائل البقاء فى العش الزوجى، بصرف النظر عن الظروف الاقتصادية الصعبة.

أوروبا (العريس فى هذه الحال) استثمرت كل ما يمكن لإقناع بريطانيا بتجاوز غرائزها الانعزالية، الناتجة فى معظمها عن سبب جغرافى يعود إلى الإقامة فى جزيرة معزولة، وعن سبب تاريخى يتعلق باختلاف التجربة بين بريطانيا والآباء الأوائل للمشروع الأوروبى، وعلى الأخص ألمانيا وفرنسا، الآتيتين من تجربة مريرة بعد الحرب العالمية الثانية. صاحب فكرة المشروع الأوروبى جان مونيه تنبه إلى ذلك منذ البداية وكان يرى أن بريطانيا ليست فى حاجة كى تخلص نفسها من الأرواح الشريرة التى تلوح لها عبر نوافذ التاريخ، كما هى الحال بالنسبة إلى فرنسا وألمانيا، أما ذلك الزعيم الكبير شارل ديجول، صاحب النظرة الثاقبة والرؤية البعيدة الأفق، فكان أول من صوت بالفيتو مرتين ضد الموافقة على طلب بريطانيا دخول المجموعة الاقتصادية الأوروبية، كما كانت يومذاك، وذلك فى عامى 1963 و1967.



قدم الاتحاد الأوروبى كل ما يمكن تقديمه من تنازلات لإقناع البريطانيين بالبقاء. وافق على احتفاظ بريطانيا بعملتها، وعلى حقها فى مراقبة حدودها، من خلال إعفائها من الانضمام إلى اتفاقية شنجن، وأخيرا على منحها الحق فى فرض شروط صارمة على الأوروبيين القادمين إلى الإقامة والعمل، قبل أن تتاح لهم فرصة الإفادة من التأمينات والضمانات الاجتماعية. لكن كل ذلك لم يفلح فى الإقناع، وظل عامل الحذر من كل ما هو قادم إلى بريطانيا عبر المانش أو القنال الإنجليزى، هو العامل السائد.

أصعب ما فى هذا الطلاق سيكون مصير الأولاد. كل الذين نشأوا فى ظل هذه العلاقة التى تجاوزت الآن أربعة عقود صوتوا إلى جانب البقاء فى الاتحاد الأوروبى، وهؤلاء هم الذين سيدفعون الآن ثمن الطلاق الصعب من مستقبلهم ومستقبل أولادهم من بعدهم، مثلما يحصل فى معظم الزيجات الفاشلة. غير أن طبيعة الاستفتاءات وطريقة عمل التصويت الديمقراطى لا تتيحان التمييز بين شبان وشيوخ، كما لا تمنحان أفضلية لأصوات المتعلمين والخبراء وأصحاب الرؤية البعيدة الأفق، على أصوات الأميين والرعاع، وأولئك الذين تتحكم غرائزهم بعقولهم.

أصعب من مصير الأولاد ومستقبلهم سيكون مصير البيت الزوجى نفسه الذى بات مهددا بالانهيار فوق رءوس ساكنيه. فى بريطانيا، صار احتمال انفصال اسكتلندا احتمالا أكثر واقعية الآن، بعد أن صوتت اكثرية أبناء المقاطعة إلى جانب البقاء فى الاتحاد، ولن تقبل أن يفرض عليها قرار الانفصال بسبب تصويت أكثرية المقيمين فى انجلترا إلى جانبه.

أما حال البيت الأوروبى فليست أفضل من ذلك بكثير، وإن يكن انهيار هذا البيت ليس وشيكا. فمطالب الانفصال من جانب الأحزاب اليمينية والشعبوية فى أوروبا لا تقل عن تلك التى فرضت نفسها على حكومة ديفيد كاميرون وأرغمته على الدعوة إلى الاستفتاء. وسواء فى فرنسا (الجبهة الوطنية) أو فى هولندا والنمسا وسلوفاكيا، وباسم الديمقراطية، التى ترتكب تحت مظلتها كل الآثام، يطالب العنصريون من قادة هذه الأحزاب زعماء دولهم بالدعوة إلى استفتاءات شبيهة بالاستفتاء الذى أجرى فى بريطانيا.

لهذا يستعجل قادة الاتحاد الأوروبى إجراء مراسم الطلاق البريطانى بسرعة. فهم يريدون أن يرى الجميع فداحة الثمن الذى ستدفعه بريطانيا، سياسيا واقتصاديا وماليا، بعد خروجها من الاتحاد، كى يكون ذلك درسا يردع الشعوب الأخرى عن الإقدام على طلاق آخر.
من الصحافة العربية
الحياة اللندنية ــ السعودية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved