الانتفاضات تعيد بناء الدولة

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 27 يوليه 2011 - 9:40 ص بتوقيت القاهرة

وجاء زمن الصعوبة مباشرة مع إطلالة فجر القدرة على التغيير بالثورة.
كان فى ظن الجمهور الذى غيب طويلا عن دائرة الفعل حتى نسى أهل البلاد وصاحب الحق الشرعى فى القرار فيها، بحاضرها ومستقبلها، أن الثورة تنجز بمجرد حضوره وممارسة هذا الحق بالنزول إلى «الميدان» لفرض إرادته.
لم يكن غائبا عن ذهن الجمهور أن النظام الذى يسيطر على البلاد منذ دهر، ويفرض هيمنته بقوة شرعيته المزورة المعززة بجيوش الأجهزة الأمنية التى تراقب كل من يتكلم أو يكتب أو يتحرك أو يفكر أو يحلم، لن يستسلم بسهولة، وأنه سيقاتل بشراسة للحفاظ على وجوده، وأنه لن يتورع عن ارتكاب المذابح واعتقال الآلاف والتضييق فى مصادر الرزق وتحريض بعض الجمهور ضد بعضه الآخر ليقدم نفسه، من بعد، فى ثوب الحريص على الوحدة الوطنية من طيش الدهماء أو تعصب الطائفيين والمنظمات ذات الواجهة الدينية.
كذلك لم يكن غائبا عن ذهن الجمهور أن للنظام شبكة من المصالح يتجمع فيها نخب من «رجال الأعمال» وأشتات من المستفيدين من السلطة فى مختلف المجالات والذين لهم اتصالات قوية مع «المجتمع الدولى» أو «الجهات المانحة» لأنهم سبق أن عملوا فى مؤسسات دولية مثل صندوق النقد أو البنك الدولى وبعض وكالات الأمم المتحدة، أو درسوا وعاشوا طويلا فعملوا وكسبوا مالا وفيرا فى الولايات المتحدة أو أوروبا أو ــ على وجه الخصوص ــ بلدان النفط العربى، فاكتسبوا صداقات مؤثرة فى دوائر القرار فى دول ذات أهمية استثنائية.

●●●

أخطر ما فى الأمر أن الجمهور كان يفتقد إلى قيادة فى مستوى طموحه، مؤهلة وقادرة ولها حضورها الشعبى الوازن فى البلاد بجهاتها كافة.. وكانت تلك مشكلة معقدة، لان النظام لم يكتف بتدمير الأحزاب والنقابات والتنظيمات والهيئات الجامعة، بل إنه قد استطاع ــ عبر استمراريته ــ أن يخترق ما تبقى منها، فصار له «عملاء» فى معظمها تزور إرادته عبرها تحت شعارات ماضيها البارقة.
ذلك أن الكثرة الغالبة من أنظمة الحكم فى الوطن العربى «شمولية»، بمعنى أنها تملك ــ كالأخطبوط ــ أذرعا أمنية تمدها فى مختلف إدارات الدولة والى كل مؤسسات المجتمع المدنى: ففى كل إدارة او مؤسسة، أو جامعة، أو مدرسة او مصنع، ولكل حى فى المدينة، ولكل قرية أو مزرعة فى الريف، وعموما لكل من يتحرك أو يقرأ أو يفكر، من يراقبه ويحصى عليه أنفاسه ويملك أن يحاسبه على أحلامه.

بل إن للأجهزة الأمنية أجهزة تتجسس عليها وتراقب المنتمين إليها وتحصى عليهم أنفاسهم، بذريعة منع الاختراق الأمنى.
إجمالا: كان الجمهور على وعى، حين اتخذ خطواته الأولى نحو الميدان أنه يقوم بمهمة استثنائية خارقة.. إنه يتحرك وليس له قيادة واحدة، وصعب جدا الافتراض أن الآلاف أو عشرات الآلاف ممن سيلبون النداء سيمكن ضبط حركتهم وتوحيد شعاراتهم وإلزامهم بتوحيد برنامج التحرك.

كذلك فإن الجمهور كان يعرف أن للنظام أحزابه التى ربما أمكن لبعضها اختراق صفوفه، إضافة إلى حزب النظام الرسمى الذى كان بقدرته أن يضم إلى صفوفه الملايين لأنه مصدر السلطة والانتفاع.. وإجمالا فان للنظام «حزبه» فى كل حزب أو تجمع أو هيئة أو نقابة او جمعية خيرية.
على هذا فالخطر الأول على الميدان سيأتيه من داخله، إذ إن تدفق الجماهير للتلاقى فيه، فى غياب أية جهة قادرة على التدقيق وتحديد هويات المشاركين، قد يزرع فيه من يفسد الاجتماع ويخربه، بل قد يتسبب فى اشتباكات ومنازعات تقسم الجمهور بحيث يستعيد النظام اعتباره بوصفه «المرجعية الشرعية» والحكم المؤهل للفصل فى المنازعات، والمسئول عن أمن البلاد والعباد.

ثم هناك خطر الاصطدام المباشر بقوى النظام، الأجهزة الأمنية المتعددة وصولا إلى الجيش..
بعد هذا كله يمكن الالتفات إلى «برنامج الانتفاضة للتغيير» إذا ما تحقق الشعار الذى بات أشبه بالنشيد الوطنى لكل بلد عربى: الشعب يريد إسقاط النظام..
ماذا بعد سقوط النظام؟!
من سيتولى السلطة وعلى أية أسس؟
ما هو برنامج الثورة للتغيير.. خصوصا أن الميدان يعرف ان النظام فاسد بمجمله، برأسه وأذرعه، بإدارته ومؤسساته سواء منها «المنتخبة» شعبيا، أو المعينة بقرار من رأس الفساد.
من سيحكم البلاد بملايينها الخارجة من الأسر ولكل فئة مطالبها المزمنة والتى سيكون على الثورة ان تحققها على الفور وإلا حكمت على نفسها بالفشل؟!
إن معظم أهل النظام العربى يتولون مقاليد السلطة منذ دهر.. بعضهم تجاوزت مدة حكمه أربعة عقود، وبعضهم ثلاثة، وهم بمجموعهم قد أفقروا البلاد فأفرغوا خزينتها ووزعوا خيراتها على المستثمرين الأجانب الذين جاء بهم النهابون المحليون من بطانة السلطان أو من شركائه..
ثم إن الإدارة خربة، والفساد يستشرى من القمة إلى القاع،
القضاء قد انُتهكت حُرمته، فانصرف منه أو ُصرف أهله من أصحاب الكفاءة والضمير والتزام القانون، وجاءت السلطة ببعض رجالها ليغطوا على صفقاتها وخطاياها، فباتت أحكامهم نموذجية فى إدانة البرىء وتبرئة الراشى والمرتشى والمرتكب واللصوص الكبار..

والأمن ليس أحسن حالا، فهو قد جعل أجهزة ليراقب كل منها الآخر، ولتشارك جميعا فى ضبط أنفاس الناس ومتابعة أفكارهم وأحلامهم حتى لا تأخذ إلى الغلط أو تغريهم به.. فالنفس أمارةٌ بالسوء، كما تعلمون.

●●●

يمكن المضى فى تعداد وجوه التخريب فى المجتمعات ومواقع السلطة أو التأثير فيها، بلا نهاية، فسنتذكر دور أجهزة الإعلام المملوكة للسلطان والناطقة باسمه، مانعة الحقائق عن الرأى العام، ومزورتها حين تدعو الحاجة (الصورة الشهيرة فى «الأهرام» إثر لقاء واشنطن الرباعى)..

المأساة أن الخارج يصبح مصدر أخبار الوطن ودولته، والخارج مصالح، والمصالح تملك أجهزة إعلام خطيرة النفوذ، وهى تقدم من الأخبار والوقائع ما يخدمها، وتطمس أو تحور أو تزور ما تبقى.

وينشطر المواطن نصفين: هو لا يصدق الإعلام الرسمى، ولكنه مضطر إلى الاستماع إلى محطات الخارج التى تبث عن وطنه أخبارا لا يملك القدرة للتحقق من صحتها. وبرغم شكوكه فى دقتها فهو لا يجد مصدرا موثوقا ليعرف منه حقيقة ما يجرى بلاده، لذلك يسمعها مستريبا ثم يحسم منها النصف أو الثلث أو الربع، ليستبقى ما يجده معقولا لا تدحضه الوقائع.

لم يعد الإعلام عبارة عن صحف معدودة ومحطة (أو محطات) إذاعية، وفضائية (أو فضائيات) رسمية.. صار الفضاء مفتوحا لكل قادر على شراء الهواء.

وفى إحصاء غير دقيق فإن ثمة حوالى ثمانمائة فضائية ناطقة باللغة العربية، بعضها لدول عربية، وبعضها الآخر لدول أجنبية، وهناك مئات من المحطات الخاصة التى تملكها جهات شبه رسمية أو مؤسسات دينية أو أحزاب تحت التأسيس.. بل إن لكل طائفة إسلامية الآن مجموعة من الفضائيات التى تكفر كل منها المسلمين الآخرين وتحرض على الفتنة.

●●●

يمكن أن نمضى فى تعداد المخاطر على الانتفاضات العربية فنملأ صفحات عديدة..
لكن مجد هذه الانتفاضات انها تتصدى لمهمة استثنائية جليلة: إنها تبدأ كتابة التاريخ العربى الحديث، وانطلاقا من عواصمه الكبرى وذات التأثير. القاهرة أولا، ومعها تونس، واليمن بشعبها الذى لا يتعب، ومعها البحرين، وسوريا التى يعجز نظامها العتيق عن فهم الطموح الشرعى لشعبها إلى التغيير وإزالة الصدأ الذى تراكم على سطح المجتمع فمنع عنه الهواء.

إنها ثورة فريدة فى بابها: تبدأ من تحت الصفر.

إنها حركة مباركة تعيد خلق «المواطن» أولا، وتعيد إليه الاعتبار وتمتحن أهليته فى أن يتولى المسئولية عن إعادة بناء وطنه، ومن ثم دولته، بما يوفر له الكرامة ويمكنه من أن يبنى غده الأفضل بجهده وعرقه، مع الإفادة طبعا من تجارب الشعوب الأخرى، ولكن بما يتلاءم منها مع ثوابت اليقين فى مجتمعاته.

إننا أمام عصر عربى عظيم، ليس أبهى من معجزة تفجر ثوراته فى كل هذه الأرض العربية، من أقصى المغرب إلى أدنى المشرق فى اليمن، إلا نجاحها فى إعادة بناء دولها، بهويتها الأصلية، مع الإفادة من العصر، بعلومه ونظمه الإدارية الحديثة التى وفرتها أسباب التواصل والاتصال.

إن أعداء الثورة فى الداخل كثر، ولكنهم اعجز من ان يواجهوها مباشرة.

أما أعداء الثورة فى الخارج فأقوياء جدا.. وأقوى ما لديهم الدهاء ومحاولة الإفادة من حاجة الثورات إلى المساعدات الاقتصادية والخبرات والبرامج الفنية الحديثة.

والخطر أن يوظف الخارج حاجة الثورات إلى المعونة المادية لكى يفرض عليها، كالعادة، شروطا سياسية تذهب بقدرتها على التغيير.

لقد كان ترحيب الخارج (الأمريكى خاصة والغربى عامة) بهذه الثورات لافتا بحماسته، حتى لقد أثار الريبة فى غاياته.

لكن تجربة فرسان الثورة فى مواجهة الأنظمة التى كانت دائما فى أحضان الغرب الأمريكى، تلقى مساندته ودعمه وحمايته، ستعلمها كيف تحمى نفسها من هذا النفاق الذى يهدف إلى «شراء» موقفها السياسى ببعض القروض أو الهبات.. التى سيدفعها، على أى حال، «أصدقاؤه» من أهل النظام العربى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved