المسئولية القومية للأمين العام

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 27 أغسطس 2015 - 9:20 ص بتوقيت القاهرة

النقاش دائر فى كل مكان حول التوصيف المناسب للحال الراهنة فى المنطقة.. عدد يعتقد أن الحال الراهنة ليست أكثر من توابع لثورات الربيع، تتناقص قوتها وآثارها كما تتناقص مع مرور الوقت توابع الهزات الأرضية. وكالتوابع تبدأ قوية تحمل فى انفعالاتها عنف الزلزال فى انطلاقته الأولى ثم تهدأ تدريجيا لتتوقف تماما عندما تستنفد طاقتها، عندها تعود الأرض إلى طبيعتها ويعود الناس إلى أحضان السكينة التى فقدوها منذ مفاجأة الدقائق والساعات الأولى. حسب هذه المشابهة، فإن ما نعايشه الآن فى بلادنا هو نهاية العاصفة ولكن يبقى التوتر الذى دفع إليها ورافق مسيرتها، باقيا معنا لأن أسبابه باقية.

عدد آخر، ربما أقل، يرى الأمور من زاوية مختلفة. يعتقدون أن الحال الراهنة حال بدايات. نعيش بداية الثورات ولم نصل بعد إلى النهاية كما فى رؤية الفريق الأول. يرى فريقنا أن ما اصطلحنا على تسميته ثورات الربيع العربى كانت التباشير المبكرة التى تسبق عادة اندلاع الثورات الكبرى. وعندما نتحدث عن ثورات كبرى فنحن نتحدث عن ثورات تستغرق عقودا لتكتمل نجاحا أو فشلا، ونادرا ما عاش جيل الثورة لينعم بثمارها أو يندم عليها. الرؤيتان قائمتان ويصعب إنكار وجودهما، أو إنكار وجود مساحة اختلاف واسعة جدا بينهما، وأن النتائج المترتبة على تناقضهما المستتر أو المعلن عديدة ومتباينة وتهدد بإثارة خلافات وصراعات جديدة داخل دول الثورة وداخل دول تظن أنها مختبئة لا تراها الثورة الزاحفة. تهدد أيضا وبعنف العلاقات الحميمة التى قامت بين دول فى الإقليم ودول خارجه. ليس غريبا وحال النقاش على هذا النحو أنه لا يوجد أحد لا يفكر متشفيا أو يائسا أو متفائلا أو منتعشا بالإثارة فى الروايات الدارجة هذه الأيام عن خريطة جديدة للشرق الأوسط ترسم نفسها بنفسها أو يرسمها مفاوضون أكفاء فى غرف مغلقة.

•••

نسمع همسا من بعض أولى الأمر فى دول عربية كانت مسارح لثورات ربيعية أن الربيع قد سُحِق وحُسِم أمره ولن يعود بثوراته إلى هذه الدول أو إلى دول عربية أخرى. لن يعترف علنا مسئولون مقتنعون بهذا الرأى أو يعترفون بأنهم مؤمنون وسعداء بهذه النتيجة، يسرون فى آذان المقربين من صناع الرأى لتشجيعهم وفى آذان المتشككين لإقناعهم أو إعادتهم إلى حظيرة الطاعة. هم أيضا مستمرون فى الإيحاء إلى الإعلاميين بضرورة تسريب هذه النتيجة إلى قطاعات الرأى العام.

هكذا يقع الالتفاف حول الثورة فى تونس ونتائجه سريعة وواضحة مكللة بأكاليل النصر المهداة من عواصم عديدة فى الغرب. وهكذا يزج بمصر فى حروب متعددة الجبهات ضد كل مظاهر الثورة ابتداء من الاحتجاج إلى التمرد إلى العصيان إلى حمل السلاح إلى تفكيك الدولة العميقة تمهيدا لإعادة تركيبها دولة أقوى من المجتمع. لا يخفى أن الثورة المصرية كبقية ثورات الربيع كشفت عن خطورة أن « تسهو» الدولة القوية وتفيق فجأة على مجتمع أقوى منها. أظن أن فهما خاطئا عن المجتمع والسلطة يهيمن من جديد على عقول أفراد فى النخبة الحاكمة التى عهدت إلى نفسها بمهمة إزالة الثورة وآثارها. يفهمون خطأ أن المجتمع الخارج من ثورة لن يختلف فى علاقته بالسلطة عن المجتمع الذى لم يدخل ثورة.

•••

أستطيع أن أتفهم دوافع وجهتى النظر واقتناعاتهما. أعرف أن مبادئ الثورات، كما أعلنها الثوار المؤسسون، إن صح التعبير أو صح وجودهم، تخضع الآن لتشريعات وإجراءات تعاقب مرويجيها وتطارد ممارسيها وتهدد أرزاق المدافعين عنها. لا مانشيتات صحف أو برامج كلام تستشهد بالعدالة الاجتماعية أو العدالة الانتقالية. قليل جدا هو ما يكتب عن الحريات وغيرها من الحقوق الإنسانية. أعرف صحفيين يتفادون أن تأتى مقالاتهم على ذكر الكرامة خشية ان يفسرها جهات الرقابة على انها إيحاء للجماهير بوجود شبهة نقص أو عجز أو تشوه فى تعامل السلطة معهم.

أسىء إلى كلمة الديمقراطية فى سنوات قليلة أكثر مما أسىء إليها فى أى عهد . بل راحت أكثر من دولة فى الإقليم تعبئ مواردها الإعلامية التعبوية لإقناع الرأى العام بأن الديمقراطية أداة يستخدمها سياسيون للسيطرة على شعوب غير شعوبهم. لا ينتبه حملة مشاعل الرأى الواحد إلى أن الرأى العام لم يعد جاهلا أو غافلا. كثيرون، وبخاصة بين الشباب، يسألون لماذا لا تكون هذه الديمقراطية نفسها أداة فى يد السياسيين الوطنيين يحمون بها أنفسهم وشعوبهم ضد الآخرين. هل الديمقراطية فى أيدى الأجانب فاعلة وفى أيدينا فاشلة؟ هل حقا هى شر فى كل الأحوال والأوقات.

•••

لاحظ كاتب عربى كبير أنه لم يعد يوجد فى الشرق الأوسط بأسره، وليس فقط فى العالم العربى، دولة واحدة لم تفرض بعد حالة الطوارئ أو إجراءات على مستواها. مرة أخرى أسأل، أهو نتيجة الخوف من «ثورة» قادمة بعثت ببشائرها قبل أربعة أعوام كما يعتقد فريق من المفكرين العرب. الأجواء بالفعل معبأة بعواصف غضب وتمرد واحتجاج، والتوتر سائد ومسيطر على جميع التصرفات وعلى سلوكيات المسئولين. وبخاصة فى قطاعات الأمن وعلى العلاقات بين أجهزة ومؤسسات الدولة. مظاهر كثيرة فى حياة الدول العربية تكشف عن حجم ومدى القلق المهيمن على قصور الحكم وتوحى بأن الخوف قائم من احتمالات نشوب المرحلة التالية من الثورة وقد صارت على الأبواب حسب تخوفات بعض المراقبين.

•••

أهو الخوف من ثورة قادمة أم هو اقتناع عام تسرب إلى مواقع القرار فى عواصم عديدة فى الإقليم بأن الحرب العنيفة التى شنت ضد ثورات الربيع لم تنتصر. هى على الأقل وبالتأكيد لم تحسم مصير الثورات بشكل قطعى ونهائى. شاركت فى هذه الحرب دول لم تتعرض مباشرة للثورة، وشاركت فلول حكم فى بعض دول الثورة لم تسقط نهائيا. شاركت أيضا قوى وتيارات متعددة الأذرع والمصالح أرادت أن تركب موجات الربيع فأسقطتها الثورات أو انتفضت ضدها مؤسسات الدولة العميقة حيثما وجدت. بالنسبة لفريق هذا الرأى يبدو الأمر واضحا لا لبس فيه. الثورات التى كان الظن أنها فشلت لم تفشل، والناس فى دول الثورة كما فى دول لم تمسها بعد الثورة، واثقون أن المبادئ والشعارات الحالى تحريمها جاهزة للاستعمال دائما، جاهزة ضد نفايات أو فضائح تفوح رائحتها، وجاهزة ضد المسئولين عن خدمات عامة منسية أو مهملة، وجاهزة ضد التيارات المتطرفة وقوى التشدد المنتصبة دائما فى انتظار فرصة للقفز على السلطة وإعادة المجتمعات إلى مواقع أشد تخلفا. هذه القوى أدركت أن جميع اجراءات إزالة الثورة ومكافحة مبادئها تصب فى صالحها .

•••

لا أخفى أننى كنت أنتظر بكثير من الدهشة وعدم التصديق أن يعقد وزراء الدفاع والخارجية العرب اجتماعا مشتركا اليوم فى القاهرة ينتهى بإصدار قرار يأذن بإنشاء قوة عسكرية عربية مشتركة. سبب دهشتى هو اعتقادى أن انشاء هذه القوة العسكرية المشتركة كانت فى سابق الأيام هدف أمة وصلب عقيدة. فهل عاد الحلم وعادت الأمة. زالت الدهشة عندما اتصل بى صديق عزيز فى الجامعة العربية يزف لى نبأ إلغاء الاجتماع أو تأجيله بناء على رغبة بعض دول الخليج. هكذا تعود الأمور إلى سياقها الطبيعى فنسأل عن السبب المباشر وراء الغاء هذا الاجتماع ونضم السؤال إلى أسئلة أخرى مثل السؤال عن سبب هذا الصمت واللامبالاة المقيتة وتجاهل أمن المواطن العربى من جانب جامعة الدول العربية؟

أنا أسأل ولا أنتقد لأننى استطيع أن أقدر مشاعر الناس فى شوارع العرب، فى بغداد وحلب وحماة وبيروت وصنعاء وبنغازى وتونس. حينما نكون هناك نسمع السؤال عن أسباب غياب الجامعة العربية عن المشاركة فى معارك الدفاع عن الحريات والحقوق والكرامة والعدالة والمساواة. أين تقف الجامعة العربية من طرفى المعارك، تقف مع الشعوب وثورتها من أجل التغيير أم مع الحكومات وإصرارها حماية الوضع القائم. تدافع الأمانة العامة للجامعة عن نفسها كعادتها أحيانا وليس دائما بأنها تمثل حكومات ولا تمثل الشعوب. تعرف الحكومات، وتعرف الأمانة العامة، ونعرف نحن أيضا أن الجامعة بإصرارها تنحية نفسها، واحتماء باللوائح والقوانين، ورفضها تحمل مسئولية غياب صوتها، تقدم نفسها هذه المرة، وربما للمرة الأخيرة ضحية أمام فيضان غضب شعبى متصاعد. يدعو أيضا للأسف أن حلم القوة العربية المشتركة لا يكاد يحظى برضاء، ولا أقول حماسة، شعوب غارقة لأذنيها فى كوابيس الحرب على ثورتها وغياب الجامعة عن مساندتها.

•••

اختلفت الشعوب العربية فى السنوات الأربع الماضية عن الشعوب التى عرفناها فى عقود وسنوات أسبق. هذه الشعوب سواء كانت تستعد وتجرب نفسها لثورة أشمل وأعمق، أو كانت ثورات ربيعها مازالت فاعلة ومتمددة ومتوسعة بمرونة وتدرج وفى هدوء، فإنها لن تقتنع ببساطة، كما اقتنعت من قبل فى ظرف أو آخر، بأن الأمين العام للجامعة ليس أكثر من موظف كبير بالأمانة العامة، وأنه لا يحمل مسئولية سياسية وحقوقية وقومية. فى الوقت نفسه هى تعرف أن الأمين العام يستطيع لو شاء أن يفعل على الأقل ما فعله أمينان عامان سبقاه قبل عقود إلى هذا المنصب القومى الرفيع، حين وقفا مع الشعوب والتزامهما الانسانى ضد حكومات اعتقدا أنها أخطأت.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved