عن الحكماء الزائفين

عمرو حمزاوي
عمرو حمزاوي

آخر تحديث: السبت 27 سبتمبر 2014 - 7:30 ص بتوقيت القاهرة

من بين مكونات ومحتويات عديدة لمسرح العلاقات الدولية، تحضر تقليديا أماكن مخصصة وأدوار محددة لمسئولين رسميين ولموظفين أمميين سابقين.

فبعض رؤساء الدول ورؤساء الوزراء والوزراء السابقين ومعهم موظفون أمميون انقضت فترات عملهم تكلفهم منظمة الأمم المتحدة (ممثلة فى الجمعية العامة ومجلس الأمن ومكتب الأمين العام) أو هيئاتها ووكالاتها المتخصصة بمهام مختلفة تتراوح بين الوساطة فى التوترات الدولية والصراعات الإقليمية ومساعى إنهاء الحروب الأهلية وممارسات التصفية العرقية وجنون جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية، وإدارة برامج عالمية تتناول قضايا كأوضاع اللاجئين ومكافحة انتشار الأوبئة والأمراض والطاقة والتغيرات البيئية ومحاربة التمييز وتمكين النساء وحماية الأطفال، والدعم الرمزى والمعنوى للأعمال والأنشطة الأممية كسفراء للنوايا الحسنة. والبعض الآخر من بين صفوف الرسميين السابقين تدفع به توافقات دولية وحسابات «محاصصة المناصب» بين القوى الكبرى والدول الإقليمية المؤثرة وتوجهات الرأى العام العالمى إلى مواقع قيادية فى الأمم المتحدة وهيئاتها ووكالاتها، وتشمل قائمة المواقع المتنافس / المتكالب عليها الأمين العام للأمم المتحدة ومواقع الرئاسة والأمانة العامة فى هيئات ووكالات كالبنك الدولى وصندوق النقد الدولى والمجلس الاقتصادى ـ الاجتماعى ومنظمة اليونسكو.

إلا أن الأكثر إثارة هى الأماكن التى يشغلها نفر قليل من الرسميين والموظفين الأممين السابقين يرفعون إلى مصاف «حكماء العالم»، وتصنع حولهم إعلاميا من الهالات الإيجابية ما يمكن الرأى العام العالمى من نسيان أو تجاهل خطاياهم وأخطائهم الفادحة حين كانوا فى مواقع المسئولية. والأكثر أهمية هى الأدوار التى يضطلع بها هذا النفر القليل فى صياغة توجهات دول كبرى وقوى إقليمية مؤثرة، وتبريرها، والترويج العالمى لها باستدعاء «خبراتهم الماضية» و«فهمهم العميق» لحقائق الحاضر وخطوط المستقبل. والأكثر سلبية هو تهميش رسميين وموظفين أمميين سابقين آخرين لهم مواقف مشهودة فى الدفاع عن السلم الدولى وعن قيم العدل والمساواة والحقوق والحريات كقيم إنسانية ملزمة، وفى السعى للحد من الصراعات والحروب والجرائم ورفض التوظيف المتصاعد للسلاح وللأدوات العسكرية وفى الانتصار لعالم متوازن لا تسطو عليه مصالح الدول الكبرى والقوى الإقليمية المؤثرة والشعوب الغنية وتمثل به الدول المتوسطة والصغيرة ومصالح الشعوب الفقيرة.

•••

فى ذهنى أسماء محددة. مستشار الأمن القومى ووزير الخارجية الأمريكى الأسبق هنرى كيسنجر، والذى شغل مناصبه فى نهاية ستينيات القرن العشرين وفى سبعينياته، ينظر له غربيا وعالميا كحكيم «الواقعية» وينصت له ولآرائه فى عواصم مختلفة ويحتفى اليوم بدفاعه عن الدولة الوطنية كالبطل الأول على مسرح العلاقات الدولية وضرورة قيادة الدول الكبرى والمراكز الإقليمية المؤثرة للعالم وفقا لحظوظها من القوة وعبر خليط من التنافس المحكوم والتعاون المنظم. كيسنجر، الذى يروج فى الولايات المتحدة الأمريكية لحتمية الابتعاد الكامل لإدارة أوباما عن حديث الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات فى تحديدها لجوهر علاقاتها بدول غير ديمقراطية كروسيا والصين والسعودية ومصر ويطالب واشنطن بالاعتماد على «حلفائها التقليديين» ومواجهة خطر انسلاخ مناطق فى آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكا اللاتينية بعيدا عن النفوذ الأمريكى ويطرح ذلك كالسبيل الوحيد لاستعادة السلم العالمى، هو نفسه المسئول الأسبق الذى أطال من الحرب على فيتنام وعارض انسحاب القوات الأمريكية ولم تعنه جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية التى ارتكبت بحق الشعب الفيتنامى. هو نفسه الذى دبر لانقلابات عسكرية فى بعض دول أمريكا اللاتينية ووظف أجهزة الاستخبارات للإطاحة برؤساء وحكومات يسارية (منتخبة كانت آنذاك أو غير منتخبة). هو نفسه الذى وضع الحفاظ على بقاء وأمن إسرائيل فى موقع متقدم على قائمة أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، ولم يرد فى الشرق الأوسط إلا الدفاع عن إسرائيل وإمدادات النفط بأسعار عالمية مناسبة للغرب وتحجيم النفوذ السوفييتى آنذاك. هو نفسه الذى كان يمارس الدبلوماسية الدولية مع حكام مستبدين، رؤساء وملوك، وأجهزة استخبارات ولا يتوقف طويلا أمام انتهاكات للحقوق وللحريات وغيرها من الجرائم المرتكبة من حكومات وأطراف متحالفة مع الولايات المتحدة. هو نفسه الذى يروج له اليوم كحكيم يستطيع بواقعيته أن يخرج العالم من أزماته المتتالية ــ واقعيته مجددا لا تعنى إلا مصالح الأقوياء من دول كبرى ومراكز إقليمية مؤثرة ولتذهب مصالح الفقراء والضعفاء وقضايا الحقوق والحريات والتنمية المستدامة والاستقلال الوطنى إلى الجحيم، واقعيته مجددا تؤيد حربا دولية على الإرهاب يستخدم فيها فقط السلاح، واقعيته مجددا تضغط على مراكز صنع القرار فى الغرب لقبول منظومات الحكم / السلطة غير الديمقراطية فى روسيا والصين والسعودية ومصر والتعاون معها دون مطالبة الأطراف كلها بوعى نقدى أن سبيل الإبقاء على الدول الوطنية هو العدل والديمقراطية وسبل النجاح فى الحرب على الإرهاب ترتبط بتجاوز الاعتماد الأحادى على السلاح والأدوات العسكرية، واقعيته مجددا فى الشرق الأوسط تدافع عن أمن إسرائيل وتستخف بحق تقرير المصير للشعب الفلسطينى وبحق شعوبنا فى الحرية.

•••

وعلى درب كيسنجر يسير، وإن بنجاح أقل، رئيس الوزراء البريطانى الأسبق تونى بلير الذى ورط دولته والبشرية فى حرب أمريكية أولى على الإرهاب (فى أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001) شهدت انتهاكات منظمة لحقوق الإنسان وجرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية حين غزت القوات الأمريكية والبريطانية أفغانستان والعراق، وخدع الرأى العام العالمى بأكاذيب أسلحة الدمار الشامل العراقية وبرر لغزو واحتلال العراق ثم لإعمال معاول الهدم والتدمير فى مؤسسات الدولة الوطنية وترك العراقيين للطائفية والمذهبية المقيتتين ولوحشية ودموية القوى الطائفية وانشطارات القاعدة الإرهابية، ومرر انتهاكات للحقوق وللحريات أثناء توليه رئاسة الوزراء فى بريطانيا التى عرفت حكم القانون الحديث قبل غيرها من الدول الأوروبية. تونى بلير هذا، وهو مبعوث الرباعية الدولية لمفاوضات السلام بين إسرائيل والفلسطينيين فى إشارة إضافية لعبثية المفاوضات والتفاوض، يحاضر الآن فى العواصم الغربية والعربية مروجا للحرب الأمريكية الجديدة على الإرهاب، وللتحالف بين الغرب وإسرائيل وبين منظومات الحكم / السلطة غير الديمقراطية فى بلاد العرب، ولتجاهل قضايا الحقوق والحريات والتنمية المستدامة بعد أن كان قد وظفها مع المحافظين الجدد فى الولايات المتحدة الأمريكية كمجموعة مبررات إضافية للحرب الأولى على الإرهاب ولغزو أفغانستان والعراق وإسقاط النظم الحاكمة.

•••

فى المقابل، يهمش عالميا رسميون وموظفون أمميون سابقون لهم سجل إيجابى بشأن قضايا السلم العالمى ويمزجون بين واقعية تستند إلى ضرورة اضطلاع الدول الوطنية بإدارة العلاقات الدولية وبين حتمية انضباط السلوك الداخلى لحكومات هذه الدول بالديمقراطية وحكم القانون والتنمية وسلوكها الإقليمى والدولى بدعم التعاون بجانب التنافس المحكوم وبالابتعاد عن التوترات والصراعات والحروب واحتوائها والتخلى عن أسلحة الدمار الشامل. هنا على قائمة المهمشين أسماء أوروبية وآسيوية وأفريقية وأمريكية لاتينية كثيرة وبعض الأسماء من الولايات المتحدة الأمريكية، من بينها المستشار الألمانى الأسبق هيلموت شميت (تولى المستشارية فى سبعينيات القرن العشرين) ووزير الخارجية الجزائرى الأسبق الأخضر الإبراهيمى والرئيس البرازيلى السابق لولا دا سيلفا ونائب الرئيس الأمريكى الأسبق آل جور. هؤلاء لا يتحركون دوليا على نحو يقترب من حركة كيسنجر وبلير ومن على شاكلتهما، ولا ينصت لأفكارهم وآرائهم الباحثة عن واقعية عادلة وديمقراطية وتنموية للعالم كما ينصت لدعاة مصالح الأقوياء والحروب على الإرهاب وتحالفات المستبدين والسلطويين. وفى الماضى، لم ينصت حقيقة لغاندى ولم يعامل مانديلا إلا كشخصية يحتفى بها وليس بمبادئها وقيم الإنسانية التى حملها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved