هل هناك ديمقراطية غير ليبرالية؟

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الأربعاء 27 سبتمبر 2017 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

نشرت مجلة EUROZINE الثقافية مقالا للكاتب «جيفرى إسحق» ــ أستاذ العلوم السياسية بجامعة إنديانا ــ حول مفهوم الديمقراطية غير الليبرالية وتطبيقاته المختلفة فى العديد من الدول، وهل هناك أصلا لوجود ما يسمى بالديمقراطية غير الليبرالية؟

بداية ذكر الكاتب أن مشروع إقامة شكل جديدة من «الديمقراطية غير الليبرالية» بدلا من الديمقراطية الليبرالية يرتبط ارتباطا وثيقا برئيس الوزراء المجرى «فيكتور أوربان» وعدد آخر من السياسيين أمثال جاروسلاو كاكزينسكى فى بولندا، فلاديمير بوتين فى روسيا، ورجب طيب أردوغان فى تركيا والذين سعوا إلى اتخاذ تدابير غير قانونية وتبريرها من خلال النداء إلى شكل أكثر واقعية من الديمقراطية تقوم قواعده على إلغاء المحاكم الدستورية وتطهير القضاء، والتسييس الكامل للخدمة المدنية، وتحويل وسائل الإعلام العامة إلى ناطقة حكومية، وتقييد امتيازات المعارضة فى البرلمان، وقد بدأت بعض الدول فى التوجه نحو هذا الشكل من الديمقراطية أمثال المجر وبولندا اللتين بدأتا هجوما مباشرا على المؤسسات الديمقراطية، وبوصول الرئيس «دونالد ترامب» إلى سدة الحكم فى الولايات المتحدة الأمريكية سيبدأ هذا التوجه فى الانتشار الذى لم يعد يهدد الديمقراطيات الناشئة وفقط وإنما أيضا أضحى يزلزل أركان الديمقراطيات المترسخة ليس فى الولايات المتحدة فحسب وإنما أيضا فى دول أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية التى شهدت فى السنوات الأخيرة استعدادا واضحا للتخلص من المؤسسات السياسية الليبرالية مثل القضاء المستقل أو الصحافة الحرة القوية، هم يبنون معا نظاما سياسيا يخرج ببطء ومن تلقاء نفسه من عباءة الديمقراطية الليبرالية.

فى مقال صدر مؤخرا بعنوان «المشكلة مع الديمقراطية الليبرالية» يقول جان مولر إن استدعاء تجربة بولندا كشكل من أشكال الديمقراطية غير ليبرالية مضلل بشكل عميق؛ والديمقراطية غير الليبرالية ــ وفقا لمقال مولر ــ ترتكز على شكل أقل تحررا وأكثر مجتمعية وتسعى للحد من حرية التعبير والتجمع والتعددية السياسية والإعلام الحر وذلك على غرار حكومات بولندا والمجر وتركيا.

والحق أن فكرة الديمقراطية غير الليبرالية ليست حديثة العهد فى العلوم السياسية، ففى مقال نشرته مجلة الشئون الخارجية عام 1997 للكاتب «فريد زكريا» بعنوان «صعود الديمقراطية الليبرالية» ذكر فيه أن إسقاط النظم الشيوعية واستبدالها بالنظم الانتخابية لا يمكن أن يفضى بالضرورة إلى ظهور وتوطيد الديمقراطيات الليبرالية التمثيلية، كما أشار زكريا حينها إلى ظاهرة «الأنظمة الهجينة» التى لا يبدو أنها تتوافق مع الفهم التقليدى للديمقراطية الليبرالية والتمثيلية ولا تتوافق أيضا مع السلطوية.

***
الديمقراطية غير الليبرالية كمفهوم علمى اجتماعى

يضيف الكاتب قائلا بأنه لا يشترط على المنظرين السياسيين وعلماء الاجتماع قبول خطاب «الديمقراطية غير الليبرالية» من حيث القيمة الاسمية. هم ملزمون بتحليل الخطاب ليس فقط ككلمات أو رموز، بل كممارسات مرتبطة بالمبادرات السياسية والحركات والأحزاب والجهود الرامية إلى سن التغيير. ومن الضرورى أن يقدروا أنه إذا ما كان العالم الاجتماعى يتكون جزئيا من اللغة، فليس المهم هو ما نفعله بالكلمات المهمة ولكن الأهم هو القدرة على تجاوز الكلمات نفسها. 
وهنا، أود أن أعرض أن لغة «الديمقراطية غير الليبرالية» هى مشكلة، وتعانى من نوع من «التمدد المفاهيمى» الذى يمنع التحقيق الدقيق. لأنه يثير نوعين من الأسئلة المرتبطة معا:

السؤال الأول يتعلق بالخطاب السياسى للقادة. إذا كان أوربان رئيس وزراء المجر السابق، على سبيل المثال، يعلن أنه يسعى إلى تحقيق ديمقراطية غير شرعية، فإن لحظة التحليل تتضمن أخذ تصريحاته على محمل الجد وفهم ما يعنيه بـ«الديمقراطية غير الليبرالية». وهذا يتطلب تحليل استخداماته لهذا المصطلح، والاستخدامات السابقة والمعانى التى يرسمها، والسياقات التى يعمل فيها، والاستيعاب السياسى لتصريحاته بين الجمهور ذى الصلة. ولكنه ينطوى أيضا على تفريغ المصطلح إلى تداعياته العملية المحتملة: تحول مؤسسات الدولة إلى «الوحدة الوطنية» عوضا التعددية العرقية والسياسية؛ وإقامة مؤسسات قضائية وتعليمية وإعلامية مستقلة نسبيا تحت السيطرة الحزبية؛ تضييق الاتصالات بين مؤسسات المجتمع المدنى المحلية والمنظمات غير الحكومية عبر الوطنية والمنظمات الحكومية الدولية، وما إلى ذلك. والسؤال هل تلائم تصريحات أوربان وتحركاته دعواته لـ«الديمقراطية غير الليبرالية». هل «أوربان يسعى إلى الديمقراطية غير الليبرالية» بالمعنى المفاهيمى البحت؟ نعم فعلا. 

السؤال الثانى الذى غالبا ما يتطرق إليه الاستدعاء التحليلى للديمقراطية غير الليبرالية هو السؤال عن التطلع السياسى: هل أدت التغييرات التى أدخلها القادة السياسيون «غير الديمقراطيين» إلى تغيير النظام، وإذا كان الأمر كذلك، فهل تشكل «الديموقراطية غير الليبرالية» على المدى الطويل طريقة مناسبة لوصف وتصنيف النظام الجديد؟ 
يبدو أن الآثار المترتبة على صيغ مثل هذه هى أن نظاما جديدا قد أنشئ، حيث تم التخلى عن العناصر الأساسية للديمقراطية الليبرالية التى تطورت منذ عام 1989.

وهناك إصرار من جانب بعض السياسيين على ضرورة ممارسة الحريات المدنية كضرورة من ضروريات الديمقراطية ولكن هناك بعض آخر يعترف بأن من السابق لأوانه الحكم على الأنظمة الناشئة التى تخطوا أولى خطواتها صوب الديمقراطية؛ فى حالة بولندا، بالتأكيد ثلاثة أو أربعة أو حتى أربعة عشر شهرا هى فترة قصيرة نسبيا من الزمن لتغيير جذرى للنظام السياسى من خلال الإنجازات الانتخابية والوسائل التشريعية. وفى حالة المجر، تطور مشروع أوربان على مدى سنوات عديدة، وشمل تغييرات مؤسسية كبيرة وإن كان مرور الدستور الجديد قد تم من خلال طرق مشكوك فيها. وهنا قد تكون هناك أسباب أقوى للمطالبة بوجود تغيير فى النظام. 

قد يكون هناك غموض وسيولة فى هذه التطورات المتطورة التى تجعل مصطلح «الديمقراطية غير الليبرالية» مناسبا بشكل خاص، كوسيلة لدلالة ما يسميه بعض العلماء السياسيين «نوعا فرعيا منخفضا» للديمقراطية (الليبرالية التعددية).. وقد ينظر آخرون إليها كليبرالية «فاسدة» أو «فاشلة« أو كديمقراطية ليبرالية تعانى من تناقص نوعيتها.

***
حول مفهوم الديمقراطية الليبرالية
بالنسبة لمناصرى فكرة الديمقراطية الليبرالية يرى الكاتب أنهم يجب ألا يتجاهلوا فكرة الديمقراطية غير الليبرالية باعتبارها فكرة عديمة القيمة أو مضللة، ولكن يجب النظر إليها باعتبارها طموحا سياسيا ربما يتبلور بشكل أكبر يوما ما.
أحد الأسباب السياسية والتاريخية لعدم مهاجمة فكرة الديمقراطية غير الليبرالية راجع بالأساس إلى أن فكرة الديمقراطية هى فكرة مفتوحة أصلا ومتنازع عليها من الأساس وهو ما يعنى ضرورة التعاطى معها بشكل مرن ويسمح بوجود منافسين على شكل تطبيقها.

ففى الغرب وهى المنطقة التى تشمل الآن كامل أراضى الاتحاد الأوروبى، بما فى ذلك الكثير الذى كان فى السابق «أوروبا الشرقية» ــ يتم ممارسة الديمقراطية الليبرالية ولكن هذه الممارسات أضحت ضعيفة ومعرضة للخطر بشكل كبير بسبب مزاحمة أوجه عدم المساواة والظلم؛ فهناك معارضة سياسية مفتوحة ولكن هناك أيضا أحزاب سياسية متجذرة يتم الاستيلاء عليها من قبل مؤسسات الدولة، وتوجد حرية تكوين الجمعيات ولكن هناك أيضا أوجه عدم مساواة جوهرية تمكن بعض الفئات المتميزة من توفير عقبات هائلة أمام العمل الجماعى لصالح الآخرين؛ هناك حرية الرأى والتعبير، ولكن أيضا توجد احتكارات وسائل الإعلام الخاصة والعامة التى تضخم بعض الأصوات على حساب الآخرين، هناك حرية مدنية، ولكن أيضا توجد أشكال استبدادية من الشرطة، والمراقبة وأحيانا معاقبة المعارضين، بحجة الحفاظ على «الأمن القومى» و«الأمن الداخلى» التى تقيد رسميا وغير رسمى النقاش السياسى.

هناك مساواة قانونية بالنسبة لمعظم المواطنين إن لم يكن جميعهم، ولكن هناك عدم المساواة المادية الهائلة داخل المجتمعات وعبر «السيادة الديمقراطية» وغالبا ما تندرج هذه التفاوتات تحت اسم «النيوليبرالية».

هناك مفهوم المساواة للمواطنة، ولكن أيضا توجد بقوة القواعد واللوائح التى تحدد الملايين من الناس على أنهم «مقيمون» أو «الأجانب غير الشرعيين» أو «غير الموثقين»، والتى تبرر الجهود لاستبعاد أو ترحيلهم، وغالبا ما يتم معاملتهم كمواطنين من الدرجة الثانية بل أحيانا كمجرمين.

وهناك وضع مدنى محايد جنسانيا، ولكن هناك أشكال راسخة قانونيا من النظام الأبوى، ولا سيما فى مجالات قانون الأسرة وتنظيم العنف القائم على نوع الجنس.

وباختصار، هناك هيكل مؤسسى وهيكل اجتماعى للديمقراطيات الليبرالية ذلك الهيكل الذى أدى إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، والأزمة اليونانية عام 2014، والأزمة البلغارية عام 2013، وبالتالى ازدياد الانتماءات غير الليبرالية فى جميع أنحاء أوروبا، من المجر وبولندا إلى فرنسا والمملكة المتحدة، يُذكر أن هذا الشكل من الديمقراطية لا يقتصر على أوروبا فحسب ولكنه يتجسد وبشدة فى شخص: دونالد ترامب.

وهكذا يتجلى بوضوح كيف أن الديمقراطية الليبرالية تثير الكثير من المشكلات التى لم تعد تقتصر على بلد واحد وإنما تمتد على نطاق عالمى بسبب الفشل الاقتصادى الكبير وانخفاض دور أوروبا فى السياسة العالمية وبسبب الخبرات الديمقراطية التى أضحت تواجه أزمات غير قادرة على حلها.

***

وبالعودة للسؤال الرئيسى للمقال، هل هناك ديمقراطية غير ليبرالية؟
نعم، هناك ديمقراطية غير ليبرالية كطموح سياسى ينبغى أن يُفهم ويُنتقد من خلال خبراء الديمقراطية الليبرالية، وفى نفس الوقت الديمقراطية الليبرالية ليست هى الشكل الأوحد للديمقراطية وإنما هى شكل جزئى وضعيف من الديمقراطية يتطلب مجهودا مزمنا ودفاعا وترسيخا وتعميقا من قبل مناصريه، وهذه مسألة لن يتم حلها بشكل سطحى أو من خلال الحد من التمدد المفاهيمى للأفكار الأخرى، ولكن الحل يكمن فى المنافسة السياسية والقرارات المؤسسية التى تترك المجال مفتوحا أمام التنافس المستمر والحل والقرار.

ختاما ذكر الكاتب أن المنظرين السياسيين والعلماء الاجتماعيين يجب أن يسهموا على أفضل وجه فى هذه المناقشات الجارية من خلال تطوير أشكال دقيقة لمجموعة من المعانى المرتبطة بمفاهيم هامة مثل «الديمقراطية غير الليبرالية» والخطابات التبريرية التى تظهر فيها؛ الأشكال الفعلية من هذه الخطابات التى تخدم التنافس السياسي؛ والطرق التى تؤثر بها هذه المناقشات على توزيع السلطة السياسية وتوطيد النظم السياسية الديمقراطية التعددية الليبرالية أو إضعافها أو تقويضها؛ ومخاطر هذه المناقشات على مختلف الأفراد والجماعات الذين يسكنون معا فى العالم السياسى.

إعداد: أسماء رمضان
النص الأصلي 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved