نحو طريق رابع

محمد محمود الإمام
محمد محمود الإمام

آخر تحديث: الأحد 27 ديسمبر 2015 - 11:10 م بتوقيت القاهرة

نصل الآن إلى نهاية الجولة التى تابعنا فيها تطورات النظم التى أدارت بها الدول شئونها إلى أن وصل العالم إلى مشارف عصر جديد يشهد تطورا غير مسبوق فى كيانات الدول والعلاقات التى تربطها ببعضها البعض. فقد ظلت البلدان تتعامل فيما بينها اقتصاديا من خلال التجارة الخارجية أى تبادل المنتجات المحلية من السلع والخدمات، مقابل نقود فى ظل نظام نقدى اتفق عليه فى بريتون وودز فى 1945 إلى أن انهار فى بداية سبعينيات القرن السابق، إضافة إلى انتقال النقود من خلال قروض أو معونات أو استثمارات مرتبطة بالنشاط الإنتاجى. ومع تزايد حجم المنشآت الإنتاجية إلى الحد الذى تجاوز نشاطها الحدود القطرية، حدث تغيران جوهريان. الأول أنها غيرت طبيعة العلاقات الدولية نتيجة تدويل العملية الإنتاجية، ليس فقط للسلع، بل وكذلك الخدمات التى كانت سابقا تتطلب لقاء مباشرا بين المنتج والمستهلك، وهو ما أثر على مكونين رئيسيين للتنمية البشرية هما الصحة والتعليم فى ظل ثورة تكنولوجية فى مجالى المعلومات والاتصالات، وفُرضت حماية للملكية الفكرية مع تواصل انخفاض مستويات حماية المنتجات المتبادلة التى كانت تخضع للاتفاقية العامة للتجارة الدولية، الجات. وتولت منظمة التجارة الدولية الإشراف منذ 1994 على الالتزام بهذه التغيرات. وصحب ذلك بالضرورة إعطاء الاستثمارات الخارجية المباشرة دورا أكبر، وهو ما حكم على الدول بأمرين: توفير الضمانات والمتطلبات التى تسهل حركة رءوس الأموال الأجنبية؛ ومراعاة استقرار النظم النقدية على الرغم من أن تبادل النقود تجاوز دورها التقليدى منذ السبعينيات فى سداد قيمة المبادلات التجارية والمالية، ليتحول إلى تبادل ومضاربات فيما بين العملات لا علاقة لها بتبادل المنتجات تؤثر فى قيمتها. ثم اشتقت منها صكوك تدعى «المشتقات» ضاعفت من حجمها وأثرى المتعاملون فيها دون مقابل مادى مما عرض قيمتها للانهيار كما حدث فى 2008. كما نشأ تباين فى توزيع الدخل لا يمت بصلة إلى ذلك الراجع إلى إجحاف أصحاب رجال الأعمال بحقوق العمال على النحو الذى ساد فى مراحل التصنيع السابقة، والذى استندت إليه الدعوة إلى الاشتراكية، بصيغها المختلفة.
***
الأمر الثانى، زيادة قدرة الأفراد، أصحاب رأس المال أو العمال، على الانتقال عبر حدود دولهم، كما أن تواصل حلقات الثورة التكنولوجية غيّر من أنماط الإنتاج، بما فى ذلك الزراعة التى مكنت الهندسة الحيوية الدول المتقدمة من أن تحول استيراد حاجتها من المواد الخام والأغذية من الدول النامية إلى تصديرها لها لمواجهة المجاعات التى تتابعت على كثير منها. وتحول العالم من حالة الاعتماد المتبادل ــ التى دعا إليها كنيدى فى 1962 ــ إلى تشابك بين الدول والمجتمعات والأفراد. وتغيرت أوضاع العمال من مجرد ممتلكين لمهارات تحددها قواعد التعامل مع الآلات التى تجسد فيها تراكم رأسمال سابق وفق فنون إنتاج تدربوا عليها، إلى عقول تبتكر فتحصل بجانب أجرها عن العمل، بريع موهبة يستغلونها فى عطاء للمستقبل، وعلى نصيب من الأرباح التى تحققها المنشآت التى يعملون فيها، فضلا عن عائدات يجنيها العاملون فى عمليات تعهيد outsourcing لمنشآت أجنبية، فى الوقت الذى يتمكن أى فرد من شراء منتجات أجنبية عن طريق التجارة الإلكترونية. أى أن الأفراد تحللوا من الروابط الرأسية مع من هم أعلى منهم مرتبة، والأفقية التى تسود مجتمعاتهم المحلية والوطنية، إلى شبكة تتعدى حدود الفئة والعشيرة والوطن. وأصبح من الضرورى إعادة تشكيل التعامل مع الأنساق الحياتية بصورة متكاملة والتخلص من التعامل المتعاقب الذى يبدأ من النسق الاقتصادى ليتلوه الاجتماعى، تتولاه الدولة باتباع السياسات وتقديم الخدمات التى تعوض العمال عن انخفاض أجورهم وهو ما يصب فى إيرادات أصحاب الأعمال. وعندما ساد مبدأ ريجان الداعى إلى تغليب جانب العرض بالتخفيف من أعباء الضرائب تشجيعا للرأسماليين على التوسع فى الاستثمار فى المجالات الحديثة، ومنح العاملين لديهم، وطنيين كانوا أم أجانب، أجورا متميزة عن العمال فى المنشآت الأخرى، حدثت شروخ فى التضامن العمالى، محليا وفى البلدان التى رحبت باستثماراتهم، وقام الجهاز المصرفى بتقديم قروض تمكّن العاملين لديهم من شراء المنتجات الجديدة بما فى ذلك الخدمات عالية التكلفة، والإعداد لما يكفيهم لمعيشة ميسرة بعد التقاعد، وزادت بذلك فروق الدخول داخل الدول وفيما بينها، كما زادت الفروق الاجتماعية مع تزايد الروابط الاجتماعية بين الفئات متقاربة الدخل خارج نطاق المحليات والأوطان، وتعدت روابط التواصل الاجتماعى (كالفيس بوك) حدود الدول. وأثر هذا على التمايز الثقافى، ساهمت فيه مؤسسات التعليم الأجنبية ولجوء معاهد التعليم الوطنية إلى إقحام اللغات، فكسرت الجامعة المصرية المبدأ الذى أصر عليه أحمد فؤاد عند إنشاء الجامعة المصرية فى ظل احتلال بريطانى بالالتزام باللغة العربية، وهو ما أضعف الروابط بين العاملين فى نفس التخصص. وهكذا جاء الطريق الثالث الذى عرضناه فى المقال السابق بمثابة رفع العبء عن كاهل الحكومات والرأسماليين المسيطرين على الهيئات التشريعية فى إطار صيغة منتقاة للديمقراطية النيابية. أما الدول الاشتراكية فقد أذعنت لقوى السوق لكى لا تفقد مكانتها فى تدويل العملية الإنتاجية وسباق الثورة التكنولوجية. أما الدول النامية التى ما كادت تسيطر على مواردها بالتخلص من الاستعمار القديم وتبدأ رحلتها فى مكافحة الاستعمار الجديد المبنى على التبعية، حتى ووجهت بموجة استعمارية ثالثة جُندت لها المؤسسات الاقتصادية الدولية، بل وهيئة الأمم ومنظماتها. وبات عليها أن تبحث عن تنمية بديلة للطريق الثالث بصيغتيه المعتدلة (البريطانية) والراديكالية (الأمريكية).
***
وبحكم أن الهم الأساسى للدول النامية هو التحرر من القيود التى تفرضها الدول المهيمنة على النظام الاقتصادى العالمى والروابط الاجتماعية، ورد الاعتبار لمفهوم الاعتماد (الجماعى) على النفس والتحرر من المسخ الثقافى، فإن عليها أن تعالج أمورها بالاعتماد على الأسلوب النسقى الشامل الذى عرضناه فى المقال المنشور فى 14/12، وأن تتبع منهجا اشتراكيا ملائما، يتفق مع الانطلاق فى التنمية من مدخل اجتماعى يستقيم مع متطلبات التنمية البشرية المستدامة، وتصويب معالجة العدالة الاجتماعية وتمييزها عن المفهوم السائد الذى هو فى جوهره عدالة اقتصادية، واتخاذ ما يلزم لتعزيز الكفاءة الاجتماعية القائمة على تطوير القاعدة الثقافية التى ترسخت فى ظل المراحل الاستعمارية المتعاقبة. وبحكم أن التطور العالمى يتجه إلى إعلاء شأن المعرفة على رأس المال المادى، وهو ما يستند إلى إبداع وابتكارات تحاول القوى الرأسمالية العالمية الاستحواذ عليها، لكى يفتح أمامها مجالات تنافس بها بدلا من تركها تتسرب إلى الخارج، تعوض نقص مواردها الرأسمالية، على نحو ما أجرته كوبا فى مجال الهندسة الحيوية. وإذا كانت الدول العربية ظلت ستين عاما تلهث وراء سوق عربية مشتركة، ولم تتمكن من إنجازها فضلا عن كونها بنيت فى ظل اقتصاد عالمى قائم على الاعتماد المتبادل فى نطاق تدفقات تجارية ومالية لا تدويل للعمليات الإنتاجية، فضلا عن كون الدول النفطية فضلت صيغة المشروعات المشتركة التى تستثمر فيها فوائضها الريعية من تصدير النفط، فإن مواجهة التطور العالمى يستدعى النظر فى برامج عربية متكاملة مشتركة، توجد لها مكانة مناسبة على المستوى العالمى. وينعكس هذا بالضرورة على أسلوب التخطيط ودور الدولة والمجتمع المدنى، الذى أصبح معرضا بدوره لعاديات التدويل. وهنا يبرز أمران: الأول أهمية التوازن الإقليمى الذى يعتمد على المنشآت الصغيرة والمتوسطة إلى جانب المنشآت الكبيرة التى تتحدد مواقعها وفقا لاقتصادياتها. الثانى أن يراعى ألا يطغى دور القطاع العام على نحو يضعف الادخار الخاص ويجعله يلجأ إلى المضاربات العقارية والمالية، وهو ما كان له دور سلبى على التنمية منذ الستينيات. أما الثانى فيتعلق بالحركة التعاونية فى مجالى الإنتاج والاستهلاك، والتى كانت من أولى الخطوات التى عنيت بها ثورة يوليو، وأفضت إلى إقامة الاتحاد القومى فى أواخر الخمسينيات من أجل بناء نظام اشتراكى ديمقراطى تعاونى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved