إحساس متزايد بخطر داهم

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 28 يناير 2010 - 10:19 ص بتوقيت القاهرة

 ينتاب المصريين إحساس متزايد بخطر داهم. أعرف زملاء وأصدقاء ومواطنين كثيرين يعبرون عن هذا الإحساس بكلمات أخرى مثل القلق والخوف والتشاؤم. ويزداد الإحساس مع كل حادث أو كارثة من صنع الطبيعة يضاعف عواقبها والآلام الناتجة عنها إهمال أجهزة الإدارة وارتخاء الشعور بالمسئولية وفساد متفاقم يتحدى القيم والمجتمع بقسوة. لم تخفف من هذا الإحساس المتزايد بالخطر الدائم، إن لم تزده، محاولات تجربها وتنفذها عقول حزبية أو أمنية متدربة على إلهاء الناس بقصص وشائعات عن جرائم فساد وسرقات ورشاوى وفضائح جنسية أو جنايات قتل وتهريب لا تلبث جميعها أن تسدل عليها أستار كثيفة فلا تعود ترى أو يسمع لها صوت.

ما لا يعرفه المسئولون عن نشر الإحساس باقتراب الخطر ومشاعر القلق والخوف وسحابة التشاؤم، أو يعرفون ولن يقروا، أنهم تجاوزوا وتجاوزنا معهم المدى. دليلنا على ما نقول هو السرعة المذهلة، التى انتشرت بها مشاعر الفتنة وممارساتها فى هشيم مجتمع جفت مفاصله، وتجرى فى كثير من عروقه دماء فاسدة وأوشكت طاقته على النفاد، وبدا فاقدا القدرة على النهوض من كبوته أو لعله غير راغب.

تجاوزوا وتجاوزنا المدى منذ اللحظة التى هيمنت فيها الغوغائية على خطاب معظم القيادات التنفيذية والتشريعية، أى منذ اندمج فى خطاب واحد الخطابان المصريان: خطاب وسلوكيات نسبة متعاظمة من أفراد النخبة من مثقفين ومفكرين وحزبيين ودبلوماسيين وإعلاميين وخطاب وسلوكيات الغوغاء من بلطجية ومسجلين خطرين ومتشردين وأطفال الشارع. قضيت، مع أصدقاء، بعض يوم نستمع فيه إلى تسجيلات لمداخلات تليفزيونية وإذاعية وفى مؤتمرات صحفية وأحاديث مناسبات افتتاح وتدشين وغيرها، لنكتشف فى النهاية أن السادة المتحدثين، وبخاصة الناطقين باسم الحزب الحاكم أو باسم حكومة الحزب، يستخدمون بتعمد واضح وصياغات ابتزازية عبارات تفوح منها رائحة الاستعلاء والاستهانة والاستهزاء والسخرية كلها معا. لا شىء، وأكرر، لا شىء على الإطلاق، يبرر اللجوء إلى عنف اللهجة وفساد الكلمة وعلو الصوت وافتعال الشجار والمزايدة على الوطن والمواطنة والوطنية والتدثر بالأمن القومى إلا ضعف الحجة وصعوبة مداراة فضائح الفساد وهول الاعتراف بالعجز والفشل فى إدارة شئون دولة مشكلاتها عادية ومجتمع قنوع لا يطلب أو يطالب بالكثير.

****

أتمنى أن تصدق توقعات المتفائلين بأنه فى يوم من الأيام سوف تختفى هذه العينة من النخبة صانعة الرأى والسياسة فى مصر، ومع اختفائها ستختفى هذه الممارسات، ويعود للنخبة ما تستحق من احترام وتقدير المواطنين. ولكن أكثر من دليل يقوم الآن ليؤكد أن الشباب العامل فى السياسة والإدارة أو المتعامل معهما صار يستخدم هذا الخطاب الغوغائى ويمارس بكل الرضا سلوكيات الغوغاء، لقد رأينا على الطبيعة وعلى شاشات التليفزيون أساتذة وقادة رأى كانوا ذات يوم يتحملون مسئولية الكلمة الراقية والعلم الرصين والرقى الأصيل فى الجامعات وأجهزة الإعلام، عرفناهم قبل أن نراهم يباشرون مهمة قيادة عمليات إرهابية مسلحين بمفردات الخطاب الغوغائى. من بين هؤلاء الشبان والشابات سيخرج من يتصدرون صفوف النخبة الحاكمة والقائدة فى مصر، وسيكون صعبا عليهم تغيير ما تعلموه من قدوة وقيادة لازمتهم ولازمتنا مدة طويلة. وهكذا يتولد الإحساس بالخطر الداهم.

أمامنا، فى هذه اللحظات تحديدا المثال بل الإنذار الأخطر، إذ أنه حين يتدنى الغوغائيون بمكانة الأمن القومى المصرى، أحد أهم أركان الحياة على أرض مصر وحامى وحدتها، إلى مستوى الخطاب الغوغائى وسلوكياته، لابد أن يزداد إحساسنا بالخطر الداهم. أفهم أن تطرح قضية إقامة الجدران «الإستراتيجية» على جزء من حدودنا الشرقية بخطاب يليق بقضية أمن قومى، وأن نناقش سلبيات إقامة هذه الجدران وإيجابياتها إن وجدت هذه أو تلك، وأن نكرر بكلمات محسوبة ومسئولة ما ورد فى خطاب رئيس الدولة، أما أن نهين أمن البلاد ونجعله مادة للشد والجذب بين من يفهم ومن لا يفهم، أو من يحرص حقيقة على أمن مصر ومن يهمه بالدرجة الأولى مصلحته الشخصية وبين من يقارع بالحجة والمنطق ومن ينازع بالصراخ أو بسلاطة القلم واللسان، وإن كان الثمن فى النهاية فتنة بين شعبى مصر وفلسطين اتسعت لتصبح فتنة بين شعب مصر وشعوب كثيرة فى العالم. وفى النهاية، قامت جدران لم يقتنع مواطنون كثر بأن هدفها الوحيد أمن هذا الجانب من الحدود، كأمر مستقل عن منظومة أمن إقليمية ودولية أوسع بكثير من قضية أمن مصر وحدها. هذا الهدف، قد يكون هدفا مشروعا ومبررا فى حد ذاته بالنسبة للمستفيدين منه إلا أن طرحه بالصورة التى طرح عليها أساء إلى مكانة مصر الإقليمية، أضاف إلى اتساع فجوة الثقة داخل مصر، وتعمقت القطيعة بين حكومة مصر و شعوب المشرق العربى، التى هى فى النهاية خط الدفاع السياسى وربما الاقتصادى الأهم عن أمن مصر القومى. هذا ما كان يردده حماة الأمن المصرى عبر التاريخ وهذا نفسه ما يرددونه حتى اليوم بعيدا عن مكبرات الصوت وآذان الغوغائيين من قادة الرأي. ليس بالغوغائية والمسجلين الخطرين وأطفال الشوارع وصغار الموظفين تتعامل الدول مع قضايا أمنها القومى، فالأمن القومى لأى دولة إن وصلت إليه ودنسته غوغائية فى الخطاب السياسى والإعلامى انتفت أسباب وجوده وهبط من علياء مكانته وتخبط فى الفوضى مصيبا بالضرر الجسيم المؤسسات المكلفة بحمايته وتأمين سلامة الأمة ومواردها الحيوية.

تطور مماثل وقع مع قضية أخرى بدأت منافسة رياضية وانتهت قضية أمن قومى. وهى قضية العلاقة مع الجزائر. أعرف جيدا ونعرف جميعا مكانة كرة القدم فى أولويات الإعلام واهتمامات قطاعات معينة من الشعوب قبل أن تخضع مباراياتها وبعض لاعبيها وصفقاتها لسوق الإعلان التجارية وعصابات الجريمة المنظمة وساحة للتدرب على الغوغائية الخطابية والكلامية وأداة من أدوات تسلط الحكام وبقائهم فى الحكم أو وصولهم إليه. وأخيرا صارت أداة من أدوات الحرب والصراع الدولى، بمعنى آخر تجاوزت حدودها فى بعض الحالات لتصبح، كما حصل فى مصر، قضية من قضايا الأمن القومى. كان غريبا ومتجاوزا أعراف الأمن القومى المصرى ومبادئه، أن يقوم أفراد فى النخب الحاكمة والحزبية والإعلامية تعريض الأمن القومى المصرى والجزائرى للخطر بإشعال نيران حرب بين غوغاء من مصر وغوغاء من الجزائر يقودها سياسيون وإعلاميون أبدعوا فى استخدام الخطاب الغوغائى ومستغلو ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية متدهورة فى كلا البلدين. الغريب والمخيف فى آن واحد والدافع لحالة الإحساس بخطر داهم هو أن تحقيقا لم يجر فى الدولتين لمحاسبة المسئولين عن إشعال نيران الغوغائية لتحقيق أغراض، أيا كانت هذه الأغراض، على حساب الأمن القومى ومكانة مصر الدولية. وأظن أنه لو وقع التحقيق وجرت المحاسبة لما تكرر استخدام الفوضى الغوغائية لنفس الأغراض أو لأغراض أخرى.

****

لاشك أنه يوجد فى مصر من يستطيع بوسيلة أو أخرى إقناع المسئولين عن الخطاب الغوغائى فى السياسة المصرية بالتوقف عن تعريض الأمن القومى المصرى للخطر قبل فوات الأوان، وإقناعهم أيضا بضرورة الارتفاع بمستوى مناقشة قضايا الأمن إلى مستوى يكسب الأمن القومى ما يستحقه من احترام الدول والحكومات الأخرى. لا يمكن ولا يجوز أن يتجاهل المسئولون عن أمن مصر القومى الخطر الداهم الذى يهدد البلد بأكمله ومستقبله نتيجة التسيب أو الديماجوجية السائدة فى نمط التعامل مع قضية الفتنة الطائفية أو مع قضية الترشيحات لمنصب رئيس الجمهورية ومبادرات إدخال تعديلات دستورية أو وضع دستور جديد والدعوات إلى وقف انهيار المؤسسات وتخبط السياسات وتدهور مكانة مصر الإقليمية وطرح ضرورة رفع كفاءة القائمين على إدارة علاقاتها الخارجية.

نخشى أن نرى يد الغوغائية تمتد إلى قضية مستقبل السودان، كما امتدت إلى قضايا مياه النيل والعلاقات مع إثيوبيا وتركيا وإيران، أو نراها تستمر فى التعامل مع قضايا التوسع الإسرائيلى والعجز العربى الفادح واقتراب الشرق الأوسط من خط النهاية، حيث لا ندم ينفع ولا طريق للعودة و لا مكان للانتظار.

يجوز الاختلاف حول كل هذه القضايا ويجوز طرح الاختلافات ومناقشتها بكل شفافية وموضوعية، لكن، رجاء، بدون غوغائية فى الخطاب وإرهاب فى الكلمة واستهانة بالذكاء. لا سبيل آخر، غير هذا السبيل، لوقف إحساس أهل مصر المتزايد بالخطر الداهم على أمنهم القومى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved