قوة يناير الكامنة

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 28 يناير 2018 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

رغم انكسار ثورة «يناير» فإن ما خلفته تحت الجلد السياسى يستحيل تجاوزه ـ أيا كانت مستويات التراجع عما طالبت به.
بالتعريف: «يناير» جذر الشرعية الدستورية، ولا توجد شرعيات معلقة فى الفضاء بلا أرض تقف عليها.
وبالأثر: فإنها ــ كأى ثورة أخرى فى التاريخ ــ ليست جملة عابرة تذهب إلى حال سبيلها بالنسيان، أو التجاهل.
هناك فارق جوهرى بين قوة الدفع والقوة الكامنة.
قد تتوقف قوة الدفع قبل أن تحقق الثورات أهدافها، ذلك حدث مرارا فى تجارب تاريخية مماثلة، غير أنه لا يعنى موتها سريريا.
بقدر القوة الكامنة فى بنية الوعى العام وعمق المجتمع، فإنها قد تتجلى على غير انتظار خارج كل التوقعات والسيناريوهات.
من مصادر تلك القوة ما استقر لدى الأجيال الجديدة ــ كأصحاب الحق فى المستقبل ــ من نظر إلى فعل الثورة بنوع من التماهى، فالمس بها إلغاء لهم.
ومن مصادرها ارتباط «يناير» بعصر المعلومات وثورة الاتصالات، بما يجعل مستحيلا فصم العلاقة بين الأجيال الجديدة وطلب الدولة الحديثة الديمقراطية والعادلة، وما ترسب عميقا فى الذاكرة الجماعية عن أجواء الثورة وأحلامها، مشاهد الجموع وهى تتدافع فى طريق واحد، صلوات المسلمين فى ميدان التحرير تحت حماية الأقباط خشية الاعتداء عليهم، والاستعداد للتضحية بالروح دون وجل، والغناء الجماعى ورسوم الجرافيتى.
كل المواجهات الكبرى والتفاصيل الصغيرة مصادر قوة كامنة يصعب تحديها فى أى مستقبل.
كان أهم ما خلفته الثورة فى أيامها الأولى تأكيد ثقة المصرى فى نفسه، أن المستقبل من صنعه ومصيره فى يده والقرار قراره بشأن السياسات والرئاسات.
فى لحظة تخلى الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» عن السلطة بعد ثمانية عشر يوما من الثورة اهتزت الميادين والشوارع المصرية بهتاف تلقائى: «ارفع رأسك فوق أنت مصرى».
كان الهتاف ــ بنصه ورسالته ــ تعبيرا عن مخزون غضب مكتوم انفجر بالثورة ضد فساد استشرى منهجيا ومقننا بزواج السلطة والثروة وظلم اجتماعى وصل إلى حدود غير محتملة وانسداد لأى أمل فى الإصلاح السياسى للنظام من الداخل.
كانت تلك الأوضاع، التى جرى الثورة عليها، إهانة للمشاعر العامة استدعت الدعوة إلى رفع الرأس عاليا. 
كان الهتاف ــ بنصه ورسالته ــ تعبيرا آخر عن تطلع لتغيير جوهرى فى بنية السلطة يتيح أوسع مشاركة سياسية ويوفر بالوقت نفسه ضمانات حقوق المواطنة والعدالة الاجتماعية، التى تجعل الرأس مرفوعا والثقة فى المستقبل مؤكدة.
يستحيل تماما العودة إلى الوراء بلا أثمان باهظة، فقوة «يناير» الكامنة لها حساب وتأثير.
كانت «يناير» ثورة شعبية حقيقية تقدمت مشاهدها الأجيال الجديدة.
فى أول العرض التاريخى جرى ما يشبه «التقديس» للفعل الثورى شاملا جماعات الشباب، فهم «أفضل جيل فى التاريخ المصرى الحديث»، «لا قبلهم ولا بعدهم».
كان ذلك نفيا لتواصل الحركة الوطنية المصرية جيلا بعد آخر وتسطيحا فى الوقت نفسه لطبيعة الثورة.
ثم جرى بعد ذلك تفكيك وحدة الجيل قبل أن ينكل به ويشهر بسمعته باعتبار رموزهم طابورا خامسا يتآمر على الدولة.
تلك قمة المأساة فى القصة كلها.
بأخطاء متراكمة اختطفت الثورة، لكن ظلت قوتها الكامنة ماثلة فى المشهد.
بين أسباب الثورة والانكسار هناك حقائق لا يصح إغفالها عند أى قراءة لتلك القوة الكامنة.
كان أول تجليات التغيير الكبير ما شهدته مصر من استحقاقات انتخابية بأحجام المشاركين فيها وبطول الطوابير أمام صناديق الاقتراع، كما لم يحدث فى تاريخها السياسى من قبل.
بغض النظر عن الأخطاء الفادحة التى ارتكبت فى استفتاء مارس (٢٠١١) على التعديلات الدستورية، فإن مستويات الإقبال عبرت ــ وقتها ــ عن ردم فجوة الثقة فى العملية الانتخابية، فلكل صوت قيمته وحسابه وأثره على النتائج الأخيرة.
بقدر ثقة الناس أن أصواتهم لها حرمتها وتأثيرها ترتفع معدلات الإقبال على صناديق الاقتراع.
وبقدر وضوح الخيارات بين بدائل استنادا إلى فكرة التنافس الجدى يأخذ الإقبال مداه.
ذلك ما حدث بالضبط فى زخم «يناير»، وكان تطورا جوهريا يومئ إلى إمكانية بناء نظام ديمقراطى حديث تتسع فيه المشاركة السياسية، ويتأكد حضور المواطن العادى.
كانت الانتخابات كالاستفتاءات نتائجها معروفة سلفا والتنافس الانتخابى الجدى مستبعدا.
كما كان أمرا مسلما به أن تعلن السلطات ما تشاء من أرقام عن نسب المشاركة.
كل ذلك تقوض بخطايا سياسية لا يمكن غفرانها، فقد خرج استفتاء مارس بالتحريض الطائفى عن طبيعته المفترضة إلى فتنة مبكرة.
لم تكن التعديلات الدستورية محل إجماع، ولا القوى المدنية شارك أحد ممثليها فى صياغتها.
حدث انقسام مبكر مع التيارات الإسلامية بجميع أطيافها على قاعدة طبيعة الدولة ــ دينية أم مدنية ــ رغم أنها لم تكن معروضة فى المواد المستفتى عليها و«المجلس العسكرى» نسخها بتغيير أغلبها وإضافة أضعافها إلى إعلان دستورى جديد أصدره.
كان أسوأ ما جرى روح التكبر على شركاء الوطن بعبارات طائفية كالتى أطلقها شيخ سلفى على شاشات الفضائيات: «إللى مش عاجبه يطلع بره البلد».
كانت تلك الخطيئة الأولى لجماعة «الإخوان» رهانا على مجاراة السلفيين فى دعاويهم خشية أن يفقدوا قواعدهم المحافظة بتشدد.
ثم كانت الخطيئة الثانية اعتبار الديمقراطية وسيلة للوصول إلى السلطة تستخدم مرة واحدة.
فى الاستحقاقات التالية من استفتاءات وانتخابات نيابية ورئاسية تبدت حيوية سياسية فى فرز المواقف والتحالفات.
كان يمكن للعملية السياسية أن تمضى وتصحح أخطاءها، غير أن الجماعة تصورت أن بوسعها استبعاد القوى المدنية والاستفراد بالسلطة وبدا ذلك نذيرا بما هو آت.
بعد «يونيو» لاحت فرصة جديدة خذلتها السياسات بقسوة، حتى بدا الحديث عن إحياء العملية السياسية ــ كأنه طلب لمستحيل.
وكان تفكيك جبهة «الإنقاذ»، التى مثلت الغطاء السياسى لـ(٣٠) يونيو، خطيئة القوى والتيارات المدنية.
رغم ذلك كله فإن خبرة «يناير» وعمق تجربتها وقوتها الكامنة تبدت فى رفض عام، شبه جماعى، لتفريغ الانتخابات الرئاسية من أى تنافس وتعدد حتى باتت استفتاء على رجل واحد.
هناك كلام متواتر، علنى ومباشر، أن اقتصار الانتخابات على الرئيس الحالى يضر بصورة نظامه فى العالم، وهذا صحيح تماما.
بذات القدر فإنه من الصحيح تماما أن العالم الذى يتحدثون عنه يرقب ويتابع التصرفات العصبية والساذجة للبحث عن مرشح فى اللحظات الأخيرة للعب دور «الكومبارس» ويسخر منها على نحو يهين البلد كله.
الأخطر أنها تضرب ثقة المصرى فى مستقبله.
وقد كان الاعتداء البدنى على المستشار «هشام جنينة» إهانة بالغة لأى معنى إنسانى وسياسى ودستورى فى هذا البلد.
ما جرى ــ بالضبط ــ رسالة ترويع لأى تنوع سياسى يلتزم القانون والدستور، ولذلك أثاره وتداعياته الخطيرة، ومن بينها تزكية العنف والإرهاب.
إذا عجزت السياسة، أو ألغيت تماما، عن الوفاء بمهامها وأفلتت التصرفات عن أى عقل فإن أحدا ليس بوسعه أن يتوقع ما قد يحدث غدا.
انظر حولك بتأمل لتدرك أن للتاريخ دروسه التى لا يصح إغفالها، أو تجاهلها والاستهتار بها.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved