اغتيال العروبة بالإسلام السياسى

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 29 فبراير 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

اختفت كلمة العروبة من الأدبيات السياسية.. أُسقطت عمدا من الخطاب الرسمى للقادة الإسلاميين من راكبى موجة الربيع العربى، كما أسقطها قادة المرحلة السابقة من أهل النظام العربى خوفا أو نفاقا، وصار الربيع العربى «يتيما»: لا أب له ولا عائلة.. بل إن تنسيب هذا الربيع إلى أى نوع من الهوية العربية يبدو مفتعلا ويقصد به التضليل.

 

لم يحدث أن نطق من ركب موجة الانتفاضات التى أسقطت أنظمة وبدلت، فى أوضاع دول عربية عديدة، كلمة واحدة حول «العروبة» أو أعلن التزامه بمقتضياتها، بل إن مجموع القيادات التى وصلت إلى السلطة نتيجة انتصار الانتفاضات تتجنب تحديد هويتها القومية، وتفضل استيلاد هوية جديدة هى خليط من الإسلام السياسى المدجن امريكيا ومن «الوطنيات المحلية» التى تؤكد استقلاليتها عن الهوية الجامعة تاريخيا وجغرافيا وبموجب مقتضيات الأمن القومى، بمعزل عن اللسان العربى وعن الارتباط العضوى بين الإسلام والعروبة فى هذه المجتمعات التى تظل فى عيون العالم « عربية».

 

وليس من المصادفات ان يغلب تعبير «الشرق الأوسط» على تعبير «العروبة»، وان يصير مجلس الأمن أو المجتمع الدولى هو البديل العملى عن الجامعة العربية وكل ما استولدته هذه المؤسسة العربية من مجالس وهيئات كانت تؤكد المستقبل الواحد لهذه الأمة بالاستناد وحدة الطموحات التى تحرك جماهير شعوبها مشرقا ومغربا.

 

وبديهى أن تحل إسرائيل محل فلسطين إذا كان اسم المنطقة جغرافيا يتمدد قياسا إلى الغرب، أوروبيا وأمريكيا، والى الشرقين الأدنى والأقصى، حيث تلغى الهويات الوطنية جميعا، ويحدد موقع كل «جهة» بغض النظر عن شعوبها، قياسا إلى الغرب بوصفه «المركز».

 

●●●

 

 

من قبل ولادة الربيع الذى أعطته واشنطن الهوية العربية، كانت الجامعة العربية بدولها جميعا قد استقالت من مسئوليتها عن فلسطين، شعبا وأرضا، ماضيا وحاضرا ومستقبلا، تاركة مصيرها فى أيدى «المجتمع الدولى» بدءا بالأمم المتحدة ومجلس أمنها والهيئات المتفرعة عنها والمتخصصة بحقوق الإنسان، وانتهاء باللجنة الرباعية وضمنها الاتحاد الأوروبى.

 

.. وعندما توالت الانتفاضات الشعبية فى العديد من الأقطار العربية فأسقطت بعض أنظمة الطغيان وهددت بإسقاط أنظمة أخرى، وجدت جامعة الدول العربية نفسها محاصرة بالجماهير الغاضبة بحكم المصادفة الجغرافية إذ إن مبناها العريق ــ الذى أقيم فى الأصل مكان ثكنة لجنود الاحتلال البريطانى قبل إجلائه عن مصر ــ يقع عند باب الميدان، مع ان الموقع السياسى يكاد يجعله نقيضا لتطلعاته.. ولم تكن تملك ما تقدمه أو حتى ما تقوله لتلك الجماهير... وان كان أمينها العام السابق قد تمشى إلى ميدان التحرير القريب وحيا الجماهير، ولكن بوصفه مرشحا للرئاسة فى «العهد الجديد»، وليس بصفته الرسمية.

 

على أن هذا التودد إلى جماهير الميدان لم يمنع الأمين العام نفسه من مجاملة الرئيس المذهب لدورة انعقاد مجلس الجامعة وموافقته على إحالة قضية ليبيا وانتفاضة شعبها ضد دكتاتورها الأبدى معمر القذافى إلى مجلس الأمن الذى أحالها بدوره إلى الحلف الأطلسى الذى أرسل طيرانه الحربى ومدمراته لتحرير الليبيين من أعباء ثروتهم النفطية بآبارها وأنابيبها ومرافئ التصدير حتى وإن انتهى الأمر بوضع هذه البلاد ذات الانتماء العربى الصريح على عتبة الحرب الأهلية.

 

.. ولقد تكرر الأمر ذاته مع الأمين العام الجديد للجامعة الذى واجهته فور تسلمه موقعه السامى التطورات الدموية المخيفة للمواجهات اليومية بين السلطة فى سوريا وبين حركة الاعتراض التى أخذت فى التوسع.. ولقد اندفع النظام إلى عنف غير مبرر فى البدايات فى مواجهة فصائل معارضة أطلت سلمية.. لكن هذا العنف سرعان ما فتح الحدود أمام مجموعات مسلحة آتية من جهات عديدة، مزودة بعقيدة أشد فتكا من الأسلحة التى تحملها، وقد تسبب ذلك كله بإلحاق أضرار جسيمة بالمجتمع السورى وقدراته، فضلا عن تاريخه المشرف فى إعادة الاعتبار إلى مفهوم العروبة كإطار قومى جامع بين أهل هذه الأرض، على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وأعراقهم، مع احترام الإسلام بوصفه دين الأكثرية الساحقة، والارتفاع فوق ترسبات الصراعات المذهبية والعرقية عبر التلاقى على المشروع السياسى للغد الأفضل.

 

●●●

 

ونتيجة لاستغلال بعض الدول المذهبة تزايد حدة المواجهات الدموية بين النظام ومعارضيه فى الداخل السورى، ارتكبت سابقة تعليق عضوية دولة مؤسسة للجامعة، وأخرج ممثل سوريا من حضن هذه المؤسسة التى كانت سوريا مهد ولادتها (مؤتمر بلودان).

 

ثم مع استمرار ولاية الرئيس المذهب لدور انعقاد مجلس الجامعة العربية، لم يجد الأمين العام الجديد للجامعة مخرجا يعفيه من أداء مهمة لا تتفق مع طبيعة دوره وموقع المؤسسة التى يمثل، فكان ان ذهب إلى مجلس الأمن فى مهمة لم يكن ليقبلها فى ظل مناخ طبيعى أسقطته الهيمنة النفطية على القرار العربى.

 

وكان ذلك إعلانا بأنه لم يعد للجامعة العربية من دور، وبأنها فقدت مكانتها كمرجعية بعدما تأكد عجزها عن المعالجة بل وسقوطها فى موقع الطرف، مع انتشار مناخ مسموم يتهمها بما يتجاوز العجز إلى التورط.

 

صارت أشبه بدائرة تصديق على قرارات تتخذها الأكثرية النفطية.

 

ولما فشل مجلس الأمن فى تبنى قرار إعلان الحرب على النظام السورى «المطرود» من الجامعة، تم ابتداع « مؤتمر أصدقاء سوريا» كمرجعية بديلة.. وكانت المفارقة ان الجامعة العربية قد تصدرت الصف الأول جنبا إلى جنب مع الدول الإمبريالية (سابقا) فى حين أكملت الجبهة النفطية العربية هجومها الشرس، فذهب بعضها إلى أبعد مما تطالب به المعارضات السورية التى تعذر توحيدها.. وهكذا سمعنا الأمير سعود الفيصل يطالب بتسليح المنشقين معتبرا النظام سلطة احتلال.

 

●●●

 

انتبه بعض العرب إلى خطورة المنزلق الذى يدفعون اليه مع الجامعة العربية، وكانت مصر أول المتنبهين، ومن هنا أنها لعبت مع تونس دورا طيبا فى كبح جماح الخارجين على العروبة ومنها إلى مطلب التدخل الخارجى ــ ولو بالسلاح الإسرائيلى.. ولعلها، اكتشفت أن «العرب» باتوا أقلية وسط هؤلاء «الأصدقاء» الذين تكاثروا وكادوا يمسكون بالقرار ويحددون مستقبل هذه الأمة عبر تفتيت مكوناتها، ومن ثم دولها، بحيث لا يتبقى من رباط بين مئات الملايين من أبنائها المنتشرين بين الخليج والمحيط.

 

تبدت سوريا وكأنها بلا أهل. صار للمعارضة ــ وليس للدولة فيها أو لشعبها مجتمعا ــ  «أصدقاء» فقط، لا علاقة لهم لا بهويتها ولا بتاريخها، وليس فى ذاكرة العلاقات بينها وبينهم إلا الحروب الصليبية وإقامة إسرائيل بالقوة على جزء من أرضها الطبيعية.

 

ولم تكن الجامعة العربية، إلى ما قبل الحرب الامريكية على العراق بذريعة تحرير الكويت، لتقبل مثل هذا القرار. لكن الجامعة سقطت ضحية أولى فى تلك الحرب التى اغتالت العراق بدولته وشعبه، ناشرة مناخ الفتنة فى المنطقة جميعا.

 

صار «أصدقاء سوريا» هم البديل من الجامعة ومن العرب كلهم.

 

أســـقط أخوة ســـــوريا إخوتهــــم والتحقوا بذلك الرهـــــــط من «الأصدقاء» الذى أثبتــــــوا صــــــــدق التزامهـــــــم بثوابت الصداقـــــــــة من خلال موقفهم من القضية الفلسطينية..

 

كما أثبتوا حرارة تأييدهم للانتفاضات العريقة من خلال محاصــــــرتهم ثورة مصـــــــــر والضغط عليها سياسيا واقتصاديا وعبر المؤسسات الدولية التى يتحكمون بقراراتها لإخضاعها وامتهان كرامة شعبها.

 

هنا تطرح مجموعة من الأسئلة نفسها على أى مهتم بالحاضر كما بالمستقبل العربى:

 

هل هى مصادفة أن يتزامن وصول الإسلاميين إلى السلطة مع اندثار دور جامعة الدول العربية، وتجاوز مجلس الأمن ذاته ــ بسبب التسحب للفيتو الروسى ــ لتصير مرجعية العرب موزعة بين الحلف الأطلسى (للتدخل العسكرى كما فى ليبيا) و«أصدقاء سوريا» للتدخل غير الحربى فى الداخل السورى وعبر الحدود، (ماليا واقتصاديا وسياسيا)؟.

 

وما هذه الخلطة التى تضيع الهوية السياسية المطلوب إسباغها على الربيع العربى؟ من هم أهله الشرعيون؟ وما حدود التطابق بين إرادة الجماهير فى التغيير وبين إرادة الغرب بالقيادة الامريكية فى تدجين الشعوب المنتفضة وإلزامها بالعودة إلى بيت الطاعة بعد إسقاط الطاغية الذى بات عبئا ولا بد من الخلاص منه لاحتواء الغضبة الجماهيرية من دون إسقاط النظام بسياساته المرضى عنها؟!

 

لعله كان ينقص أن تضم إسرائيل إلى هؤلاء «الأصدقاء».

 

ولماذا لم يحتشد هؤلاء «الأصدقاء» وتحت راية الجامعة العربية أو معها من اجل فلسطين قبل ان تمحوها مشاريع الاستيطان فى دولة يهود العالم، إضافة إلى التخلى العربى وتيه القيادة الفلسطينية؟

 

ولماذا لم يحتشدوا من اجل العراق فى مواجهة الاحتلال الأمريكى عام 2003؟

 

ولماذا لم يحتشدوا من أجل لبنان فى مواجهة الحرب الإسرائيلية عليه فى صيف العام 2006، حتى لا نستذكر الاجتياحات الإسرائيلية ومجازرها فى جنوبه (قانا كمثال) وبعض عاصمته وسائر المناطق؟!

 

ومع أن الأمين العام للجامعة العربية حاول جاهدا استنقاذ ما يمكن إنقاذه من كرامة موقفه ومن حصانة موقعه الا ان الأكثرية خذلته لأسباب تتراوح بين إغراءات الذهب وتهيب السيوف و«خيانات» الرفاق القدامى، الذين افترضوا ان الموجة أعلى من ان يمكن مقاومتها فلجأوا إلى الحكمة القائلة «عند اجتماع الدول احفظ رأسك»!

 

●●●

 

لقد بات العرب أقلية غير مؤثرة فى جامعة الدول العربية، وصار النفطيون «أكثرية» بقوة ذهبهم ونفوذهم فى هذه اللحظة الانتقالية بين الميدان والديوان..

 

وهذا يعنى غياب العرب عن القرار، حتى يعود القرار إلى مصدره فى الميدان.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved