النورهييجى أكيد

أهداف سويف
أهداف سويف

آخر تحديث: الأربعاء 29 فبراير 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

صباح الأحد كنا فى «سين ٢٨» ــ مقر المحاكمات العسكرية فى الحى العاشر. كنا هناك تضامنا مع سميرة إبراهيم، الفتاة الشجاعة، التى تقاضى القوات المسلحة لأنهم أجروا عليها «كشف العذرية» المشين، والذى يُمَثَّل لنا على أنه إجراء روتينى وضرورى عند دخول الأنثى إلى محبس لا يقتصر على النساء. وقد حكم مجلس الدولة لسميرة فى هذه القضية، وتباشر الآن النيابة العسكرية التحقيق فى الواقعة.

 

وقفنا فترة فى الشارع خارج مجمع سين ٢٨، ثم دخلنا إلى حوش المجمع، وطال وقوفنا فتعبت وجلست على رصيف عال. أخرجت ورقة وقلما، وبدأت أسجل ما رأيته فى الشارع خارج السور. كتبت:

 

إلى اليمين تقف دبابة عليها ملصقات تعلن «الجيش والشعب إيد واحدة».

 

الدبابة عليها أيضا صورة لجندى يحمل طفلا.

 

جاء ضابط شاب وسألنى بلطف ماذا أكتب. قرأت له ما كتبت، فتغيرت نبرة صوته وتقدم منى ماداً يده وقال: «ورينى الورقة». أخذ الورقة وقرأ الجملتين وقال «يبقى حضرتك بقى، معلش، تتفضلى بره، ما تقعديش هنا». سألته مبتسمة «هو حضرتك الرقابة على المصنفات الفنية؟» فلم يضحك. طلبت ورقتى فأعطانى إياها، وضعتها فى حقيبة يدى، وأكدت له انى لن أكتب جملة أخرى من داخل حوش سين ٢٨. ولم أكتب. أكمل جملى الآن فقط:

 

إلى اليمين تقف دبابة عليها ملصقات تعلن «الجيش والشعب إيد واحدة». فوق فتحة فى المقدمة ملصق يحمل كلمة واحدة: «الشعب»، الفتحة لخروج المدفع.

 

الدبابة عليها أيضا صورة لجندى بكامل العتاد يحمل طفلا صغيرا ــ ربما كان عنده سنة. تلتف ذراع الجندى اليسرى حول الطفل. الطفل ظهره ملتصق بالجندى ووجهه لنا. أشم رائحة أمريكية فى اللقطة: الميل الذى يُصَوَّر به الجندى، وكأنه يجرى تحت ضرب نار، الطريقة التى يرنو بها إلى الطفل ويبتسم له، الطريقة التى يحمل بها الطفل، الطفل نفسه، ببشرته الوردية وامتلائه المطْمَئن وملابسه البيضاء النظيفة حتى الكوتشى. طفل متعوب عليه ومصروف عليه ــ ربنا يخليه لأهله، أينما كانوا ــ ومن الصعب تخيل نوعية الخطر الداهم الذى ينقذه منه الجندى الرانى المبتسم.

 

أما ونحن بداخل حوش سين ٢٨ فقد التقينا سيدة أخذوا ابنها فى «آخر قبضة»، وشاب وأمه ــ غلابة إلى أقصى درجة ــ الشاب أخذ إعفاء لكنه مطالب بأن يبيت فى القسم كل ليلة (من السادسة مساءً إلى السادسة صباحا)، وشاب أخد براءة وخرج من الحبس بعد سنة ويحاول تخليص ورق التجنيد. التقى سيدة، درَّست لها فترة وجيزة فى آداب القاهرة، زمان، ثم التقيتها فى أوائل ٢٠٠١ ضمن «اللجنة الشعبية لدعم الانتفاضة الفلسطينية» حيث اشتهرت بأنها جمعت طنا من الأرز كوب كوب من ربات البيوت الطيبات فى حلوان. والآن بالطبع هى فى قلب التضامن مع أسرى الثورة. أسمع أصوات الشباب فى الشارع ترتفع، وأرى البوابات الكبيرة تفتح، فأترك موقعى على حرف الرصيف، وأقف لأستقبل عربة ترحيلات يتصاعد منها ذلك الهتاف المألوف والذى صار قاسما مشتركا فى كل اللقاءات والاحتجاجات: «يسقط يسقط حكم العسكر»! حين تقترب العربة نسأل «إنتو مين؟» ويأتى الجواب «ظباط ٢٨ إبريل» ثم يرتفع هتافهم مرة أخرى. أحدق فى العربة الزرقاء الداكنة، فى الجسم الصلب الأصم، فى النوافذ الصغيرة ذات القضبان، أتأملها، آلة، أداة، لا تعبر عن أى شىء سوى القوة فى أكثر صورها بدائية، تحمل وتحبس بداخلها آراءً ومواقف وحماسة وشجاعة وحب.

 

ومن المحكمة العسكرية فى الحى العاشر خلال الزحام الشديد إلى وسط البلد وشارع ثروت، إلى المؤتمر الذى (وأبحث هنا عن بديل لـ«يحتفل»: يسجل مرور عام على انطلاق حملة «لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين». شهادات من أهالى شباب فى الحبس، شهادة محمد عطا الذى قُتِل أخوه، عصام، فى سجن طرة، وشهادات من ناس خرجوا من الحبس، مثل أبو بسمة، الرجل صاحب محل وعامل أربع عمليات جراحة فى القلب ولا يقوى حتى على حمل البضاعة لمحله، وشهادات من أمهات خرج أبناؤهم من الحبس وظلت الأمهات متضامنات مع الحملة ومع الشباب الباقى فى السجون. التساؤل الشامل هو «لماذا؟» يصحبه نوع من عدم التصديق كالذى تكابده شخصيات روايات كافكا. لا أصدق أن هذا حدث/يحدث لى لأننى لا أرى له منطقا أو سببا ــ وهو ليس كارثة طبيعية، بل هو من صنع الإنسان، فلابد له من منطق وسبب. إلا أنى لا أراهما ــ

 

عشنا أجواء العسكر والمحاكمات من الثامنة صباحا إلى الثامنة مساء (ونحمد الله فنحن نعيشها فقط من خارجها كمراقبين ومتضامنين) ويخيم علينا جو ثقيل. نعم نحن مستمرون، نعم تُحَمِّسنا كلمات «ماما خديجة»، نعم يملؤنا وجود أحمد حرارة ومالك مصطفى بالأمل، نعم سلمى سعيد قامت بالسلامة تمشى الآن على رجليها المليانة خرطوش، لكن الجو ثقيل. ثقيل إلى أن تضربه عاصفة إسكندريللا، عاصفة كاملة بالرعد والصواعق والكلمات: «راجعىىىن! راجعىىىن! راجعين يا حياة راجعين… خطر يروح لأمان، شجر يقول أناشيد… راجعين من الماضى، رايحين على المستقبل …» شعر أمين حداد. الأصوات ترتفع، والكل يغنى، ووالله أرى الغيوم تنقشع وأشعر بالثقل يُرفَع، وبالعزيمة تتحرر وتتدفق فى العروق، وبضربات النبض ودقات القلوب على ميزان واحد. كل الألم، وكل الغضب، المتجمع فى مئات القلوب والأرواح فى هذه القاعة المعبقة بتاريخ الثورة فى نقابة الصحفيين، تعصف به هذه الأغانى، تضربه فتحوله فى ساعة إلى طاقة وإيمان وإصرار. وحين نصل إلى الأغنية الأخيرة، وتأمر إسكندريللا الزمن: «هاتلى يا بكره، صفحة جديدة ــ«نكون على يقين أن الزمن سيُنفِّذ، أن الزمن معنا، أن الزمن كان فقط بانتظار أن نطلب، أن يكتب أحمد أمين حداد، وأن تغنى سامية جاهين وحازم شاهين والفرقة ونحن معهم، أن نهتف «هاتلى يا بكره، صفحة جديدة ــ» فيأتى بها، «حط لى مصر، فى جملة مفيدة ــ» فيضع مصر، ونحن معها، فى أفيد الجمل.

 

وهناك بشائر، بشائر جديدة للصفحة الجديدة، والجملة المفيدة، ظهرت فى اليوم التالى، فى نفس التوقيت ونفس القاعة التاريخية فى نقابة الصحفيين: انطلاق حملة ترشيح المحامى الشاب، خالد على، لرئاسة الجمهورية. ولهذا الحديث، بالطبع، بقية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved