اليوم التالى للهزيمة

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 28 مايو 2017 - 9:40 م بتوقيت القاهرة

لم يكن هناك سبيل للفكاك من أزمته المستحكمة فى اليوم التالى للهزيمة.
لا نسيان ما جرى ممكن ولا عذاب الضمير محتمل.
انكسر مع من انكسروا واستبدت به مشاعر أنه خان الثورة وخان البلد وخان نفسه.
تنكر لكل معنى حاربت من أجله مصر حتى تحكم بأبنائها على ما طمحت «الثورة العرابية» فى ثمانينيات القرن التاسع عشر.
ككل الثورات المغدورة فإن شيئا من أحلامها يأبى أن يغادر الذاكرة المعذبة.
وقد كان الصاغ «محمود عبدالظاهر»، مأمور واحة سيوة فى أواخر سنوات القرن التاسع عشر، رجلا معذبا بتاريخه، يعرف للثورة قيمتها وإلهامها، لكنه فى لحظة ضعف وخذلان خسر كل شىء.
عندما كتب «بهاء طاهر» تحفته الأدبية «واحة الغروب» عام (2006) لم يخطر بباله أن ثورة جديدة تقترب مواقيتها، وأنها سوف توصم بتهم مماثلة نالت من ثورة «أحمد عرابى».
الرواية عن الغروب، غروب الأوطان والمعانى والرجال، كأنها نبوءة بأن عالما جديدا يوشك أن يولد، لكنه عندما ولد أجهض مبكرا.
الاسم الحقيقى لبطل الرواية هو «محمود عزمى»، ولا يعرف عنه شىء إلا أنه دمر معبدا تاريخيا وأن حجارته استخدمت ــ كما قيل ــ فى بناء سلم جديد لقسم الشرطة وفى ترميم مسكن مأمور الواحة.
لم يستخدم «بهاء» ذلك الاسم الحقيقى، لأنه يعرف قدر رجل آخر بالاسم نفسه هو المفكر والدبلوماسى المصرى الدكتور «محمود عزمى»، الذى مثل مصر فى الأمم المتحدة وتوفى فوق منصتها ودوره استثنائى فى ترقية الوعى العام بأربعينيات وخمسينيات القرن الماضى.
ربما أوحت المادة التاريخية الشحيحة لأديب آخر أن يؤلف عالما متخيلا عن الإرهاب والعداء لكل ما هو حضارى وثقافى وتاريخى.
غير أن «بهاء» لم يفعل ذلك وصاغ من خامة التاريخ قصة أخرى أسقط عليها نظرته فى خيانات المثقفين، وهذه من ضمن شواغله فى مجمل أعماله.
كما صاغ عالما فريدا عن الصحراء والواحات وشخصياتها التى لم يقترب منها أديب آخر.
بين تراجيديات الزوجة الإيرلندية «كاثرين» وفتاة الواحة الغامضة «مليكة» و«الإسكندر الأكبر» الذى زارها و«نعمة» الفقيرة التى أحبها طارده سؤال الخيانة.
‫«‬ما زالت نعمة تعيد لى حتى الآن الطفل والرجل، الفرحة والندم، أقول لنفسى هى خيانة أخرى».‬‬
هكذا سحق الشعور بالخيانة روحه.
فى شخصيته شىء من النبل، لم يحتمل ضميره لحظة ضعف وخزى، وضميره يعذبه لأنه خان الثورة بالضعف فى لحظة تحقيق معه بعد هزيمتها.
لم يكن الضابط الشاب من أبطال الثورة لكنه آمن بأهدافها.
وعلى الرغم من أى أخطاء ارتكبها فقد كان هناك فى قلب المعارك عندما بدأت المدافع تقصف الإسكندرية.
‫انكسرت الثورة بالخيانة واحتلت مصر بـ«الولس».‬‬‬
«رأيت بعينى الولس الذى كسر عرابى ثم رأيت الولس الأكبر بعد أن كسروه».‬
«أغمدوا السيوف فى صدر البلد».‬
هكذا رأى المشاهد أمامه فى اليوم التالى للهزيمة واحتلال مصر.‬
زحفت وجوه كبيرة إلى قصر الخديو العائد تحت حماية الاحتلال تدين الثورة فهى «مؤامرة» و«فتنة» وقادتها «عصاة».‬
«سألت نفسى: ولماذا يخون الصغار أيضا؟».‬
«لماذا خان الضابط يوسف خنفس جيش بلده فى التل الكبير وقاد الإنجليز ليغدروا به ويفتكوا ليلا؟.. وكيف كان يفكر وهو يرى مدافع الإنجليز تحصد إخوانه ورفاق سلاحه الذين كان يأكل معهم وينام معهم ويضحك معهم؟».‬
فى طريقه الطويل إلى واحة سيوة منقولا للعمل مأمورا عليها قال الدليل: «إن الصحراء تغدر لمجرد عاصفة أتت فى غير أوانها!».. «تعال أحدثك أنا كيف يكون الغدر».‬
«أسأل نفسى طوال الوقت عن الخيانة».‬
«اتباهى أمام نفسى بماض بطولى وأتعمد نسيان لحظة الخزى!» ‬
الذين اعترفوا عليه فى التحقيقات واضحون أمام أنفسهم، خانوا ونسوا وتنكروا لأى صداقة وعاشوا حياتهم بعد الهزيمة كأنهم لم يؤمنوا بالثورة يوما.‬
مأساته هو أنه لم ينس ولا يقينه بنبلها تزعزع.‬
كان الوجه الآخر للمأساة أنه انكسر فى التحقيقات التى تلت الهزيمة.‬
لم يبرر لنفسه ذلك الانكسار ووصفه بـ«لحظة خزى وخيانة».‬
‬استولت على مشاعره أنه خائن و‫قبعت اتهاماته لنفسه داخله كالجمر.‬‬‬
(سؤال: هل كنت تؤيد أحمد عرابى وزمرته؟‬
جواب: بل كنت من الساخطين على أفعال البغاة.‬
سؤال: من الذى علمته عما قام به سعادة محافظ الثغر عمر باشا لطفى أثناء فتنة (١) يونيو؟‬
جواب: علمت أن سعادته أمر بتحرك بلوكات الشرطة لقمع الفتنة ولكن أعوان العصاة لم ينفذوا أمره)‬.
بانكساره فى التحقيقات عاد إلى عمله وخسر نفسه حتى أخذ يتقزز منها.‬
كيف ضاع كل معنى فى لحظة انكسار واحدة؟‬
عندما تخسر نفسك فإن كل شىء يفقد قيمته واحترامه.‬
فى وقت ما كان مستعدا للموت دون تردد، لكن فى اليوم التالى للهزيمة خارت عزيمته.‬
‫«‬ما هى بالفعل أزمتى؟ هذا عهد قديم مضى وانقضى فما هى المشكلة الآن؟».‬‬
‫«‬أيامها كان هناك معنى غير أنه زمن وانقضى، لم يعد يذكرنى به سوى الألم المتقطع لأثر الرصاصة التى هشمت عظام ذراعى».‬‬
لم يكن الأمر بتلك البساطة، فلا الزمن عالج جروح النفس ولا ذكريات الثورة غادرت المخيلة المعذبة.
بلحظة كاشفة تحت وطأة عذاباته انفجر لسانه بالحقيقة، لم يعد مكترثا بشىء بعد أن فسدت حياته.
كان «وصفى» الضابط الشاب، الذى يعمل تحت إمرته فى شرطة واحة سيوة، يتحدث بأثر دعايات شاعت بعد هزيمة الثورة عن أنها فتنة جرت الخراب و«عرابى عاص» لجناب الخديو، وأن مصر لا تصلح أن يحكمها مصريون، متصورا أن قائده يتبنى الاعتقادات نفسها.
«اسمع يا وصفى، عرابى باشا أشرف من عشرة خديويين مجتمعين. والبكباشى محمد عبيد أشرف من كل الخديويين والباشوات الخونة الذين باعونا للإنجليز».
بدا الضابط الشاب مبهوتا وهو يسمع هذا الكلام من قائده الذى سارع بالقول: «انصراف».
‫«..‬ فى داخلى صوت يسخر منى ــ لكن كلامك تأخر عشرين سنة يا حضرة الصاغ! وإلى غير وصفى كان يجب أن تقوله».‬‬
‫«‬ما الذى يعيدنى إلى أيام المجد فى لحظات الخيبة؟ لأنى كنت هناك يومها».‬‬
إنه عبء التاريخ الذى لا تحتمل حمولته.
إنها مشاعر الخزى لأنه لم يقل ما يعتقد فيه بوقته.
هكذا قادته مأساته إلى تدمير معبد تاريخى اكتشفه الإنجليز فى واحة سيوة ومات بالتفجير.
خطر له أن «الإنجليز أرادوا أن يقولوا إن الأجداد كانوا كبارا ونحن الآن صغارا لا نصلح لغير الاحتلال».
وهكذا بات التاريخ بثقله الحضارى عبئا لا يحتمل وإرثا لا يستحق للذين فرطوا فيما أنجزه أسلافهم وأبدعوا فيه.
أراد أن ينتهى من هذه الحكايات كلها وأن يموت ربما يرتاح ضميره المعذب.
عندما شعر وهو ينازع الروح أن هناك صوتا يبكيه قال: «شكرا لك.. لأنك تأخرت!».
هذه قصة متخيلة بأبطالها ورموزها وعوالمها لا تمت بصلة لحقيقة ما جرى عند تدمير ذلك المعبد، لكنها ترمز بإبداع الأدب الحقيقى لخيانات المثقفين وأزمات الضمير فى اليوم التالى للهزيمة ــ هزيمة الثورة العرابية وأى ثورة أخرى تلتها.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved