أمسية عائلية فى ربيع 2030
جميل مطر
آخر تحديث:
الثلاثاء 28 مايو 2019 - 9:10 م
بتوقيت القاهرة
نادرا ما نجتمع كعائلة. اجتمعنا ليلة أمس الأول، تلبية لطلب من ابنى. أراد أن يقدم لنا صديقته الحميمة ولعلها فى واقع الأمر الأكثر حميمية بين صديقات كثر. المفاجأة لنا لم تأت من دعوة صديقته فوجودها ووجود غيرها فى بيتنا أمر مألوف، إنما أتت من طلب اجتماع لكامل أعضاء العائلة لتقديمها لنا من جديد. جلس كل منا فى مقعده المفضل بعد أن تبادلنا كلمات تليق باجتماعنا الذى لا يتكرر إلا نادرا. كنا خمسة. رومانا زوجتى وابننا هانى وابنتنا ماريانا والمخلوقة اصطناعيا تسو الطرف الخامس فى هذه العائلة. انشغل كل منا بما فى يده باستثناء تسو التى راحت تنقل نظراتها من كل واحد فى الغرفة إلى الآخر. تهتم بأحدنا لسبب لا نعرفه فتتغير قسمات وجهها أو تركز عليه الانتباه لثوان قبل أن تنقل اهتمامها لغيره. لاحظت عليها فى تلك الليلة توترا غير معتاد. نهضت من مقعدها أكثر من مرة لتحرك قطعة من قطع الزينة الملقاة على موائد الغرفة إلى مكان آخر استحسنته أو لتحمل كوبا فرغ منه الشراب لتجدده أو تبعده. ولكنها على غير عادتها تحركت كثيرا بغير هدف.
***
دق جرس الباب. نهض معا الاثنان هانى وتسو ليفتحا الباب للضيفة. تعمدت تسو أن تسبق الابن العزيز إلى باب البيت. عاد ثلاثتهم. احتلت تسو مقعدها وأقبلت الضيفة، واسمها زهى، علينا تحيينا. لم تصافحنا طبعا فأبناء هذا الجيل لا يتصافحون ولا يصافحون كما كانت تفعل أجيال سابقة. انفتح النقاش. لم أعرف كيف ومتى بدأ ولكنى أعرف أنه كان من نوع النقاش الذى يحمل فى جذوره مظنة أن يتحول من بارد إلى ساخن فى لمح البصر. تدخلت لإدارته وقد لاحظت أن تسو، الإنسانة الاصطناعية الناعمة جدا، تحاول فرض رأيها فى قضية حساسة لا يتحدث فيها الناس الطبيعيون فى حضور الغرباء. مرة أخرى تؤكد تسو أنها لم تعد غريبة عن عائلتنا وضيوف أفرادها.
بعد قليل تعمدت أن أجعلها، أى تسو، تدرك أننا لم نقم بواجب الضيافة للآنسة زهى، الصديقة الحميمة جدا لابننا. انتفضت تسو معتذرة ولكن رافضة عرض زهى وهانى أن يقوما وحدهما وبدون مساعدة من تسو بالتجول فى المطبخ وخزائنه وثلاجته الكبرى والصغرى وكل الغرف والحصول على حاجتهما. لم تضعف أمام توسلاتهما ولم تتأثر بعلامات عبوس وغضب. أجبرتهما على التراجع نحو مقعديهما يجران أذيال الهزيمة. غابت تسو دقائق معدودة خارج الغرفة التى كانت تغلى بالتوتر. سمعت زهى تقول لهانى «تسو تغار عليك منى». رد هانى «مستحيل يا زهى فهى تفتقر إلى المشاعر والعواطف كما نعرفها». عادت زهى لتلقى ببعض غضبها على صديقها ولتقول له «أنا امرأة وأعرف كيف تغار امرأة من امرأة أخرى وهذه التى تعيش بينكم امرأة. صدقونى ففى بيتنا مخلوقة مثلها».
***
طلبت من العائلة التصرف بحكمة عند عودة تسو إلى الغرفة ووعدت زهى بأننى سوف أعالج الأمر فى الأيام التالية. دخلت تسو وهى تحمل صينية اصطفت عليها أكواب القهوة والشاى وصحون الحلوى وعلى وجهها ابتسامة رضا وصفاء. طلبت منها بعد أن انتهت من مهمة الضيافة أن تسمعنا مقطوعة أحبها لشوبيرت فاستجابت إلى طلبى ورغبتى أن تأتى الموسيقى من مكبر خافت. انسحبنا ــ زوجتى وأنا ــ بعد الموسيقى مرسلا فى انسحابنا إشارة إلى تسو والابنة ماريانا لتنسحبا معنا. تلكأت ماريانا معاندة أخاها ثم انسحبت بعد أن تلقت رسالة هامسة منه حملت لها وعدا أو مكافأة.
مررت فى طريقى إلى غرفتى على غرفة نوم زوجتى. استقبلتنى بنظرة ماكرة وسألت عما أنوى عمله فى شأن التغير فى سلوك تسو. نعم ستحملنى المسئولية فأنا كنت من اختار مخلوقة اصطناعية على هذه الدرجة من الجمال. أنا أحب الجمال، أحبه فى كل موقع ومرحلة وإنسان. أنا من اخترت أيضا درجة متقدمة من الذكاء. أنا أكره الغباء وأعرف أنه مسئول عن كوارث كثيرة. أردت حين اخترتها أن أحيط نفسى بكل الذكاء الممكن. اخترت آخر ما أنتجته معامل اليابان من بشر اصطناعى، كان حلمى أن أعيش المستقبل فى بيتى، أعيشه بسلوكياته وأشخاصه إن أمكن فاخترتها لى ولأولادى بقسمات صينية. استطردت زوجتى قائلة «أرجوك اذهب بها غدا صباحا إلى المعالج الفنى الذى يتولى صيانتها. اشرح له حالتها وحالتنا معها. قل له من فضلك نريد أن يعرف أننا لم نعد نستطيع العيش بدونها رغم كل تجاوزاتها. أنت يا زوجى، هل تستطيع العيش بدونها؟».
أدرت وجهى وذهبت إلى غرفتى. رفعت سماعة الهاتف الداخلى وأمليت رسالة هذا نصها «عزيزتى تسو، أرجو أن تعدى لى مذكرة قانونية آخذها معى صباحا إلى المحكمة للاستعانة بها فى دفاعى عن س. س المتهم بالإخلال بالأمن العام والتحدث علنا فى أمور صدر حظر على الكلام فيها». «ردت تسو»: عزيزى، لقد انتهيت للتو من إعداد مذكرة معلومات طلبتها ماريانا لبحث سوف تعرض فكرته وخلاصته فى الجامعة غدا. المذكرة القانونية التى تطلبها أحتاج لمناقشة بعض محتوياتها معك قبل الانتهاء منها. أنا فى انتظارك».
***
غاب الفنى المعالج فى معمله مع تسو دقائق عاد بعدها فأغلق الباب ودعانى إلى مكان قصى فى غرفته لنجلس ونتحدث. تكلم بصوت خافت. قال «سيدى لا علاج عندى لما تشكو منه. أنت لست الوحيد على كل حال. كلكم، أقصد الزبائن الذين تعاقدوا معنا على إنتاج وتوريد روبوتات بمواصفات معينة يعودون إلينا بملاحظات مشتركة بينهم. لاحظتم جميعكم أن الروبوتات التى تشارككم «العيش» طورت ذاتيا المواصفات التى خلقت عليها. أنت مثلا لاحظت أن تسو أضافت رونقا وذوقا مختلفا على ديكور منزلك، هى الآن تختار لزوجتك الألوان اللائقة والملابس المناسبة لكل رحلة عمل وواجب عائلى. وفى رأيك وآخرين أن تسو والروبوتات من أمثالها العاملة فى بيوتكم ومكاتبكم هى الآن أشد ميلا إلى مفاهيم وممارسات العدالة الاجتماعية واحترام الحقوق والحريات. أنت نفسك ضربت لى أمثلة من المذكرة القانونية التى قضيتما الليل تتناقشان فى بنودها، وأمثلة أخرى من مواقفها السياسية فى جلسات الحوار التى تحضرها وأمسيات العائلات التى تشارك فيها. كلكم بدون استثناء تقريبا لاحظتم أن الروبوتات تطور لنفسها عواطف ومشاعر أؤكد لك أننا لم نغرسها عند الصنع. حكيت عن الغيرة التى كشفت عنها تسو عندما التقت بزهى ليلة الأمس. الغريب أن يحدث هذا التطور فى وقت انحسرت فيه ملكات العواطف والمشاعر، وتحديدا القدرة على تبادل مشاعر الحب، بين البشر الطبيعيين. انحسرت لتظهر فى سلوكيات الروبوتات».
***
خرجت من معمل المعالج الفنى وتسو معلقة بذراعى. بدت سعيدة بزيارتها للمعالج وبوجودها معى. نظرت إليها بطرف عينى وتساءلت: لمن المستقبل؟