جنايات أخرى للسياسة على الاقتصاد

عبد العظيم حماد
عبد العظيم حماد

آخر تحديث: الخميس 28 يونيو 2018 - 10:25 م بتوقيت القاهرة

رأينا فى مقال الأسبوع الماضى، كيف أضرت القرارات والاختيارات السياسية طوال 60 عاما بالاقتصاد المصرى، وقدمنا أمثلة مما حدث فى عهد كل رئيس حكم البلاد، وتحكم فى العباد، بمن فيهم أساطين علم الاقتصاد بشتى فروعه، غير أن هناك موروثات ومؤثرات أخرى ذات طبيعة سياسية وثقافية وإدارية جنت ــ ولا تزال تجنى ــ على جهود وآمال النمو الاقتصادى المطرد والمتوازن.

فى مقدمة هذه الموروثات أو المؤثرات الميل الفطرى ــ لحد الاندفاع ــ إلى تفضيل الاستثمار العقارى، وتعود جذور هذا الميل إلى ما قبل قيام نظام يوليو 1952، بما أنه الاستثمار الأكثر أمانا، والأسرع عائدا فى اقتصاد ريعى فى مجمله، وكما نعلم، فقد تذرع نظام يوليو فى حقبته الناصرية بضرورة القضاء على هذه السلبية عن طريق «التحول الاشتراكى»، أى التأميم، وقيام الدولة بدور المستثمر الرئيسى، من أجل التركيز على التنمية الصناعية، وكما نعلم أيضا فقد طبقت سياسات معادية للاستثمار العقارى، من عينة تحديد إيجارات المساكن، وامتداد عقود تأجيرها إلى ما لانهاية، مما أنتج بدوره آثارا بالغة السلبية والضرر على هذا القطاع، وخلق أزمة إسكان حادة، لاتزال آثارها معنا حتى اليوم، إلا أن السياسة التى اتبعت منذ منتصف السبعينيات لعلاج هذه الأزمة، أحيت ذلك الميل الفطرى المعيب فى الاقتصاد المصرى للتركيز على الاستثمار العقارى، بل وأدخلت الدولة ذاتها كمستثمر فى هذه السوق، ليس فقط فى مجال الإسكان الاجتماعى للفقراء ومتوسطى الدخل، ولكن أيضا فى الإسكان الفاخر، والمصايف، والمنتجعات،
وتجارة الأراضى، وغيرها من أشكال المضاربات العقارية.

وبدلا من أن تدرك أجهزة التخطيط، وواضعو السياسات الآثار الجانبية الضارة للاقتصاد القومى الكلى لهذا الاندفاع العقارى، فإذا بهم يتجهون بكل حماس إلى مزيد من الاندفاعات الكبرى، فسمح لرأس المال الخليجى الكثيف، بالدخول إلى هذه السوق، وابتدع وزراء الاسكان سياسة بيع الأراضى بالمزادات، وامتلك بعض المطورين العقاريين من النفوذ ما يوفر لهم ميزات غير تنافسية فى حيازة الأراضى اللازمة لمشروعاتهم، لنصل فى العقد الأول من هذا القرن إلى شعور زائف بالارتياح، لتحقق معدل نمو يقارب نسبة 7% سنويا، مكونه الأساسى هو النمو العقارى، الذى لم ينجح فى
أن يعمل كقاطرة أو كقطاع قائد لنمو الاقتصاد بكافة أو معظم قطاعاته.

هنا ندخل إلى صميم الآثار الجانبية الضارة بشدة للتركيز على التنمية العقارية على اقتصاد من نوعية الاقتصاد المصرى، هو فى الأصل فى حاجة شديدة الالحاح إلى التركيز على التنمية الصناعية، لتوفير فرص عمل دائمة، وللحد تدريجيا من الاستيراد من الخارج، ولزيادة الصادرات، وزيادة الحصيلة الضريبية من أوعية إنتاجية حقيقية.
إن التنمية العقارية قد تصلح قاطرة للنمو، ضمن قاطرات أخرى فى وقت محدد، فى اقتصاديات تنتج من الأصل جميع مستلزمات صناعة البناء، أما فى حالتنا المصرية، فباستثناء المواد الأولية مثل الطوب والأسمنت، ونصف مكونات حديد التسليح، فإن صناعة البناء عندنا تعتمد على الاستيراد فى الحصول على مستلزماتها، إذ إننا لا ننتج الأخشاب والأدوات الصحية واحتياجات الشبكات الكهربائية، بل نستورد المصاعد وأجهزة تكييف الهواء، ونظم إنذار الحريق، ومن ثم فإن التوسع العمرانى بلا ضابط ولا رابط على هذا النمو يكثف الضغوط على الميزان التجارى المصرى، من ثم يكثف الضغوط على العملة الوطنية فى مواجهة العملات الأجنبية، دون مقابل من انتاج قابل للتصدير.
ثم إن صناعة البناء هى بطبيعتها صناعة كثيفة الاستهلاك للطاقة، فى ظرف يعانى فيه الاقتصاد المصرى أصلا من أزمة فى موارد الطاقة، ومن حاجة قطاعات أخرى أهم اليها، وكل ذلك فى وقت يزيد عدد المساكن الخالية فى البلاد على عشرة ملايين مسكن حسب الإحصاءات الحكومية الرسمية.

ليس ما سبق وحده هو كل الآثار الجانبية الضارة للاندفاع العقارى على الاقتصاد القومى ككل، فقد أدت المضاربات خصوصا بعد دخول رأس المال الخليجى، وانتهاج أسلوب المزاد فى بيع الأراضى إلى قفزات ضخمة لأسعار العقارات، وهو ما يعنى بدوره انخفاضات ضخمة فى قيمة النقود، والأهم ما يؤدى إليه ذلك من انخفاض قيمة المدخرات فى القطاع «العائلى» والتى كان من الممكن أو الطبيعى أن تتجه إلى الاستثمار فى مشروعات صغيرة أو متوسطة، ولو فى شركات مساهمة، وكمثال فقد كان من يدخر مليونا من الجنيهات حتى عام 2006، يستطيع أن يؤسس به مشروعا إنتاجيا أو خدميا، وكان هذا المبلغ حتى ذلك العام يكفى لشراء شقتين أو ثلاث شقق فى أحد الكومباوندات الجديدة، فأصبح هذا المبلغ بعد عام 2006 يكفى لشراء شقة واحدة، وهو لا يكفى الآن لشراء مثل هذه الشقة، ومن ثم فهو لا يكفى لتأسيس مشروع اقتصادى، وقد اخترنا عام 2006 لأنه العام الذى سمح فيه بدخول رأس المال الخليجى بكثافة فى سوق الاستثمار العقارى، وهو العام الذى طبقت فيه سياسة بيع الأراضى بالمزاد.

لذلك كله فليس مما يدعو إلى الارتياح أو التفاؤل أن يستهل رئيس الوزراء الجديد الدكتور مصطفى مدبولى مهمته بحث المواطنين على المضاربة فى العاصمة الإدارية الجديدة، لأنه يتوقع أن ترتفع الأسعار هناك بنسبة 300%.
وبمناسبة العاصمة الإدارية الجديدة، وكذلك مدينة العلمين الجديدة، وغيرها من المشروعات العقارية الكبرى التى تنفذها الدولة بنفسها، وبغض النظر عن عدم تحبيذنا لهذا التوسع فى الاستثمار العقارى «العام والخاص»، فلماذا لم تفكر الحكومات التى تعاقبت علينا أخيرا فى الاتفاق مع الشركات الصناعية الكبرى فى العالم، على تأسيس فروع لها فى مصر، لتصنيع وتوطين انتاج مستلزمات هذه المشروعات؟ وكمثال فأى شركة مصاعد كبرى تلك التى ترفض تأسيس مصنع تابع لها فى مصر، بينما يتوافر لها كل هذا القدر الهائل من الطلب على منتجاتها، ويسرى ذلك على شركات
تصنيع مكيفات الهواء، ونظم الإنذار بالحرائق.. وغيرها.. وبذلك قد يصبح النمو العقارى قاطرة للاقتصاد ككل.

لقد سبق لى فى مناسبة أخرى أن استشهدت بالتجربة الصينية فى المشروعات الكبرى من خلال مثال القطار
المغناطيسى فائق السرعة، الذى تعذر استخدامه فى ألمانيا، بعد أن أنتجته شركة سيمينز بسبب المعارضة الشعبية خوفا على البيئة، وهو ما اضطر الشركة والحكومة الألمانية للبحث عن سوق له فى الصين، وقد رحب الصينيون بشرائه، ولكن بشرط إقامة مصنع تابع لشركة سيمينز لتصنيعه، ولإنتاج قطع غياره فى الأراضى الصينية، وتدريب الكوادر الوطنية على التصنيع والصيانة ليحلوا تدريجيا محل الخبراء الألمان، وأتذكر أن الشركة الألمانية خصصت مبلغ 20 مليار يورو للاستثمار فى هذا المصنع ابتداء من عام 2003، وها هى ذى الصين تسعى للتسويق هذا القطار لحسابها فى كثير من دول العالم النامى، ومن بينها مصر.
............................

فى كل ما سبق عرضه تبدو «السياسة» هى الفيصل فى توجيه الاقتصاد، وتحديد الأولويات، وتجنب الأضرار،، وتعظيم الفوائد، وكمثال توضيحى آخر، وإن كان مبكيا، فماذا لو كانت حكوماتنا منذ بدء النهضة الصناعية غير المكتملة فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى ــ وحتى الآن ــ قد استخارت الله، وقررت التركيز على إنتاج «المحرك أو الموتور المصرى».

بالطبع لا يحتاج أحد إلى شرح أو إثبات أهمية المحرك للحضارة الصناعية، فى الحرب وفى السلام، فهل يعقل أن تبقى مصر التى دخلتها المصانع الحديثة على يد محمد على باشا، أى منذ أكثر من قرنين من الزمان عاجزة عن انتاج المحرك؟ بينما أصبحت الدول التى عرفت الصناعة بعد مصر بعقود وقرون تنتج «محركها» الخاص، أقصد نماذج الصين وكوريا وماليزيا، وإندونيسيا، وتايوان، وتركيا، بل وحتى إيران.. الخ.

فأى سر تكنولوجى دفين فى صناعة المحركات يجعلنا عاجزين عن إنتاجها؟

يقول الخبراء إن مشكلتنا هى انتاج السبيكة الداخلية.. ولم يوجد بعد المسئول الذى يخصص الوقت والجهد والأمول للاستثمار فى بحوث تطوير هذه السبيكة، مع أن عندنا عشرات من كليات الهندسة، ولدينا خبراء ومخترعون فى هذا الميدان، ينتشرون فى كل مكان فى العالم، وبعضهم صمم محركات لصواريخ ومكوكات الفضاء الأمريكية.

ويقول آخرون، إن الفساد الإدارى هو السبب، فالاستيراد، بما فيه من سفريات وعقود وعمولات وأرباح أنفع للجيوب.
ويقول فريق ثالث أحسبه من مدمنى نظرية المؤامرة أن هناك قرارا دوليا قديما بمنع مصر من إنتاج محركها، وهكذا نعود مرة أخرى ــ وليست أخيرة ــ إلى السياسة كحاكم للاقتصاد، ومتحكم فيه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved