التزويــــــث

معتز بالله عبد الفتاح
معتز بالله عبد الفتاح

آخر تحديث: السبت 28 أغسطس 2010 - 10:11 ص بتوقيت القاهرة

هناك جديد فى مصر؛ وهو أننا لأول مرة فى تاريخنا السياسى سنواجه معضلتين متزامنتين وهما التزوير والتوريث: فبدلا من التوريث منفردا والتزوير منفردا أصبحنا نواجه الاثنين معا فيما يمكن تسميته بـ«التزويث».

وللموضوع جذور تاريخية. الأصل فى الأمور أن مصر لم تعرف فى تاريخها التزوير لأنها كانت تتمتع بمزية التوريث. لكنها احتاجت للتزوير حين ظهرت التعددية السياسية فى مرحلة ما بعد دستور 1923 ثم مرحلة ما بعد المنابر فى أواخر السبعينيات. وحتى نضبط المصطلحات جيدا فلنعرّف توريث الحكم بأنه «انتقال إدارة البلاد والعباد من حاكم لآخر دون أن يكون من حق العباد أن يتمتعوا بخاصية الاختيار من متعدد أى المفاضلة بين أكثر من مرشح أو حزب أو برنامج انتخابى».
والأصل فى التوريث أنه «انتقال ملكية شىء أو دابة من شخص لآخر يحق له شرعا أن يرث منه». وفى مجال السياسة يستخدم المعنى على سبيل الاستعارة المكنية كقول البحترى «أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا» حيث شبه الربيع بالإنسان وحذف المشبه به وأتى بصفتين من صفاته (يختال وضاحكا). وعليه فتوريث الحكم يتضمن استعارة مكنية لأنه يشبه الشعب أو الدولة بشئ أو دابة يتم توارثها وحذف المشبه به وترك لنا جوهر الصفة وهو عدم العقلانية وعدم القدرة على تحديد المصير كما هو الحال فى الأشياء والدواب.

بهذا المعنى فالمصريون يُورَّثون منذ مينا نارمر موحد القطرين أى منذ 5000 سنة، ومن بعده جاءت الأسرات الثلاثون المعروفة والتى انتهت مع حكم الإسكندر الأكبر لمصر فيما عرف باسم العصر اليونانى والذى جاء فى أعقاب طرد الفرس من مصر فى عام 333 قبل الميلاد. ومن بعده جاء البطالمة ثم العصر الرومانى ثم الفتح العربى الإسلامى والذى كانت مصر فيه ولاية إسلامية

يتم تحديد الوالى عليها من قبل الخليفة فى المدينة (لمدة نحو 30 سنة) ثم دمشق مع الدولة الأموية (نحو 100 سنة) ثم الكوفة ثم بغداد فى فترة الحكم العباسى الأول (نحو 100 عام) إلى أن شهدت الخلافة الإسلامية تراجعا فى قبضة السلطة المركزية فى بغداد ودخلنا فى عصر استقلال مصر النسبى عن الخلافة من خلال حكم الطولونيين (نحو 40 سنة) ثم الإخشيديين (نحو 40 سنة أخرى) ثم الفاطميين (نحو 200 سنة)، ثم الأيوبيين (نحو 100 سنة) ثم المماليك (نحو 250 سنة)

ثم العثمانيين (نحو 300 سنة) قبل أن تتحرك الإرادة الشعبية بقيادة شيوخ الأزهر على سبيل الاستثناء لتعيين محمد على الذى ما لبث أن أعاد بناء هيكل السلطة فى مصر على أساس التوريث مرة أخرى مُنشئا الدولة العلوية (نحو 150 سنة)، ثم دخلنا فى عصر الجمهورية حيث تم توريث البلاد من الرئيس إلى نائب الرئيس الذى يختاره.

ولم يفلح جهد الزعيم أحمد عرابى عام 1881 فى وقف تقليد التوريث هذا حين قال للخديو توفيق: «لقد خلقنا الله أحرارًا، ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا؛ فوالله الذى لا إله إلا هو، لا نُورَّث، ولا نُستعبَد بعد اليوم».

هذا عن التوريث، ماذا عن التزوير؟
التزوير هو «تزييف إرادة الناخبين بإعطاء أصوات انتخابية لحزب أو مرشح أو اقتراح بدون وجه حق فى انتخابات تعددية أو فى استفتاءات شعبية».

ولم تكن السلطة بحاجة للتزوير طالما أنه لم تكن هناك انتخابات حيث تتركز الصلاحيات التشريعية والرقابية (إن وجدت) فى يد شخص الحاكم الفرد. لكن الحاجة للتزوير بدأت حينما عرفت مصر التنافس الحزبى من أجل الحصول على الأغلبية فى المجلس النيابى الذى سيتولى عمليتى التشريع والرقابة والذى بدوره سيعطى الثقة للحزب (أو الائتلاف الحزبي) الفائز بأغلبية أصوات الناخبين. ومن هنا شهدت مصر فى مرحلة ما قبل الثورة انتخابات عديدة مزورة باستثناء انتخابات عامى 1924 و1950 واللتين فاز فيهما حزب الوفد.

لكن هذا التزوير لم يكن له تأثير على عملية التوريث لأن انتقال السلطة العليا فى مصر الملكية لم يكن يقرر من خلال الانتخابات، ففؤاد ترك الحكم لابنه فاروق الذى كان سيترك الحكم لابنه أحمد فؤاد لولا ثورة يوليو.

فى مطلع هذه الألفية شهدت مصر والعالم حدثين غيرا من هذا النمط المتواتر من التوريث دون الحاجة للتزوير (كما هو فى عهد مصر بعد الثورة حيث كان يتم استبعاد المرشحين غير المرضى عنهم دون الحاجة للتزوير) أو التزوير غير المؤثر على عملية التوريث (كما هو فى انتخابات ما قبل الثورة حيث منصب الملك ليس موضع تنافس انتخابي). الحدثان هما: حكم المحكمة الدستورية لسنة 2000 والذى فسر المادة 88 من الدستور بحتمية أن يكون هناك إشراف قضائى مباشر على عمليتى الاقتراع والفرز (أو ما عرف شعبيا بفكرة قاض لكل صندوق انتخابي). وهذا الحكم بصيغته تلك يعنى ضربة قاصمة لعملية التزوير لا سيما مع وجود قضاة شرفاء قرروا أن يأخذوا الحكم على مأخذ الجد.

الحدث الثانى هو تبنى إدارة بوش لأجندة الديمقراطية فى الشرق الأوسط فى أعقاب أحداث سبتمبر والتى جعلت البيت الأبيض يحمر وجهه ويكشر عن أنيابه معتقدا أن الإرهابيين نبت طبيعى لغابة الاستبداد التى يعيشها المسلمون فى الشرق الأوسط. وبالتالى ربط بين أمن الولايات المتحدة

والتحول الديمقراطى فى منطقتنا. وتزايدت الضغوط على مصر وبعد أن كان المسئولون المصريون يرفضون أى «ضغوط أو دروس نتلقاها من الخارج» على حد تعبير وزير الخارجية آنذاك ويؤيدهم فى ذلك كلام الرئيس بأن الدعوة لتعديل الدستور دعوة باطلة، فجأة وجدنا الرئيس مبارك يعلن عن التعديل الدستورى الأول (فبراير 2005) والذى يسمح بانتخابات تعددية على منصب رأس الدولة. وقد تعجل الرئيس مبارك فى الاستجابة للضغوط الأمريكية، لأنه لو كان انتظر حتى نهاية العام وشهد فوز حماس فى انتخابات يناير 2006 لما احتاج لتعديل الدستور أصلا لأن الإدارة الأمريكية توقفت عن دعم مطالب التحول الديمقراطى فى الشرق الأوسط بعد تحذيرات شديدة من إسرائيل واللوبى الصهيونى فى أمريكا بأن المزيد من الديمقراطية فى بلاد العرب سيعنى وصول أعداء إسرائيل إلى الحكم.

المهم أن الرئيس مبارك وجد نفسه فجأة فى موقف معقد: التزوير يزداد صعوبة بحكم المحكمة الدستورية والتوريث غير مضمون بحكم التعديل الدستورى الأول فى 2005. وبوضع الاثنين جنبا إلى جنب أصبح هناك فرصة، ولو ضئيلة، لأن ينتخب المصريون بإرادة حرة من يأتى بعده. ولأن المصريين أُقيلوا ثم استقالوا من الحياة السياسية فأغلب الظن أن من يأتى بعده لن يأتى بإرادة الأغلبية وإنما بإرادة الأقلية المنظمة القادرة على الحشد والتعبئة (أى الإخوان). ومن هنا كان لا بد من تعديلات 2006 الدستورية للقضاء على معوقات التزوير (أى الإشراف القضائي) حتى يمكن التوريث.

وعليه أصبحنا نعيش وضعا سياسيا جديدا وهو ما سميته «التزويث» الذى هو حالة مصرية من التزوير المتناغم مع التوريث، لأنه بلا تزوير لن يكون هناك توريث. وبالمناسبة التوريث المقصود ليس قاصرا على توريث الحكم لابن الرئيس، رغما عن أنه أقرب إلى نائب رئيس الجمهورية غير الرسمى، لكن المهم أن يأتى بعد الرئيس من يسير على دربه ويحفظ له سيرته العطرة مثلما فعل هو مع الرئيس السادات. ودمتم بخير.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved