اختبارات نوفمبر

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الجمعة 28 أكتوبر 2016 - 9:25 م بتوقيت القاهرة

بقدر ما هو ملموس وفاعل ومصدق يكتسب أى عمل سياسى قيمته وأثره وتتبدد أية شكوك وريب.

وقد كان «مؤتمر الشباب» عملا سياسيا مقصودا فى توقيته وأهدافه ويظل الحكم الأخير عليه مرتهنا بمدى الالتزام بالتوصيات التى صدرت عنه والتعهدات التى أعلنها الرئيس من فوق منصته قبل إسدال الستائر على أعماله.

فى أوقات الأزمات المستحكمة، التى تتهدد المجتمعات بصميم مستقبلها، فإنها تحتاج إلى أوسع توافقات وطنية ممكنة، تراجع الأسباب التى أفضت إليها، وتعمل على سد الثغرات فى بنيانها.

ذلك من ضرورات أى عمل سياسى يدرك الحقائق حوله.

ولقد كانت تنحية السياسة من أخطر الأسباب التى أحكمت حزام الأزمات بكل تجلياتها ومخاطرها على بلد منهك ينظر إلى مستقبله بقلق وضجر، وربما شبه يأس، وتتآكل ثقته على نحو مضطرد فى نفسه وفيمن يحكمون باسمه.

غير أن رد اعتبار السياسة له أصوله وقواعده، لا يتوقف عند مؤتمر ولا ينتهى بعده.

هذا اختبار أول.

كأى اختبار قابل أن يؤخذ على محمل الجدية فإن ما قد يحدث فى نوفمبر يؤشر على جدية التعهدات ومدى استعدادها لقطع الشوط إلى آخره فى طلب الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة ـ وفق التعهدات المعلنة.

رغم أية ملاحظات على أعمال المؤتمر فلا يمكن إنكار اتساع النقاش العام فيه بأكثر من منسوب ما هو متاح فى البيئة السياسية المسمومة، كما فى إعلام التعبئة الذى تغول فى اغتيال شخصية كل رأى مختلف وكل اجتهاد خارج السرب.

النقاش العام من ضرورات التوافقات الوطنية لتجاوز الأزمات بسلام، أو بأقل خسائر ممكنة، وأكثر الأسئلة جوهرية فى اختبارات نوفمبر: إلى أى حد يتسع المجال العام للتنوع الطبيعى فى المجتمع ويقر حق الاختلاف أيا كانت درجته طالما التزم بالقواعد الدستورية التى تضمن الحريات العامة؟
بنص تعهدات الرئيس فإن «مصر تسع الجميع باستثناء من انتهج العنف».

أى تأخير إضافى فى إفساح المجال العام يبدد بالضرورة أى أثر إيجابى خلفه المؤتمر الشبابى.

هذا اختبار ثان.

وكأى اختبار مماثل فإنه يكتسب أثره من مستوى الالتزام به.

وقد كان لافتا فى مناقشات المؤتمر الموسع أنه لم تصدر كلمة واحدة تقريبا نالت من ثورة «يناير»، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ولا حاولت اصطناع خصومة بين ثورتين تصدَّرتهما الأجيال الجديدة.

وهذا اختبار ثالث ضرورى فى النظر إلى مدى نجاح المؤتمر فى تغيير البيئة العامة وردم فجوات الكراهية وتوسيع روح المبادرة والشراكة فى صناعة المستقبل وحماية البلد نفسه من أية انهيارات مفاجئة.

وقد كان للتعهد الرئاسى بدراسة مقترحات ومشروعات تعديل قانون التظاهر وإدراجها ضمن حزمة مشروعات القوانين المخطط عرضها على مجلس النواب خلال دور الانعقاد الحالى وقع خاص أكسب المؤتمر صفة النجاح الأولى بانتظار الالتزام العملى.

بطبيعة الحال لن يحدث ذلك فى غضون نوفمبر، لكن المقدمات ضرورية حتى يطمئن البال العام على احترام الحق الدستورى، وأن أشباح الدولة الأمنية لن تستقر فى المكان.

وهذا اختبار رابع.

كما كان لتعهده بتشكيل لجنة وطنية لإجراء فحص ومراجعة موقف الشباب المحبوسين على ذمة قضايا، ولم تصدر بشأنهم أحكام قضائية، وقع خاص آخر، اكتسب زخمه من طلبه أن تقدم تقريرها خلال خمسة عشر يوما على الأكثر لاتخاذ ما يناسب من إجراءات طبقا للقانون والدستور.
إذا ما جرى الالتزام بالمدى المحدد ولم تحدث إعاقات أمنية فإننا أمام صفحة جديدة تؤسس لانفراجة تساعد الجراح أن تلتئم، والبلد أن يتماسك، والمستقبل أن يعلن عن نفسه.

لثلاث مرات سابقة، تعهد الرئيس بإفراجات واسعة عمن وصفهم أنهم مظلومون خلف القضبان، غير أن ذلك تعطل بما نال من صدقية الوعود.

فى مطلع العام الحالى جرت اتصالات رئاسية مع المجلس القومى لحقوق الإنسان لحوار فى «الاتحادية»، غير أن ذلك لم يحدث على خلفية أزمات «تيران» و«صنافير» المصريتين، واقتحام نقابة الصحفيين بلا سند من القانون، وعزل المستشار «هشام جنينة» من رئاسة الجهاز المركزى للمحاسبات.

وقد أعد المجلس الحقوقى، وهو أحد مؤسسات الدولة، قائمة موسعة ومدققة لحوالى ألف حالة لم ينظر فيها، وربما تستند إليها اللجنة الشبابية المكلفة بالملف.

حسب القاعدة الثابتة فإن الحرية لا تسحب من شرعية النظم بل تثبتها، والمظالم السياسية والاجتماعية تنحر فى كل بنيان.

هذا اختبار خامس عاجل ومُلح والحكم عليه مستعجل خلال نوفمبر، لا بعده.

هناك الآن فرصة ما لحوار بلا إقصاء أو تخوين حسب تعبير الرئيس.

قد تضيع ـ كالعادة ـ والعواقب وخيمة.

وقد تحتفظ بقدرتها على التقدم لمهامها الصعبة بأثر قوة دفع مؤتمر الشباب، فتغير البيئة العامة وترفع منسوب الأمل فى المستقبل.

الأمل ليس موضوعا فى الإنشاء السياسى يرتفع منسوبه على دقات الطبول وأصوات الغناء والقسم باسم الجلالة بافتداء الرئاسات بالأرواح.

ذلك كلام استهلكته التجارب، التى أثبتت مرة بعد أخرى أن ما يصون الدول والمجتمعات من أية عواصف محتملة مدى ما تتمتع به من قواعد دستورية وأصول حديثة ترفع المظالم عن كاهل مواطنيها.

إلى أى حد وبأية درجة من الجدية والمثابرة يمكن التقدم إلى حوار وطنى واسع؟

هذا اختبار سادس.

وفيما يبدو أن الذين خططوا للمؤتمر ونظموا فاعلياته تجنبوا عن عمد دعوة أية أصوات عهد عنها التشهير بالثورة الأم، أو انتهاك أية قيمة سياسية وإنسانية للذين شاركوا فيها.

رغبة النجاح تفسر التصرفات، وهو نوع من الإدراك لحجم العبء الفادح الذى يتسبب فيه هذا النوع من إعلام التعبئة فى النيل من سمعة النظام.

كأى اختبار جدى لصلب المراجعات فإنها مسألة قواعد دستورية وقانونية ومواثيق شرف تلتزمها نقابة الإعلاميين الذى لا يوجد سبب واحد مقنع لعدم إصدار قانونها.

وفق التعهدات الرئاسية إن القانون الموحد للصحافة والإعلام سوف يصدر خلال الدورة الحالية لمجلس النواب.

ووفق رئيس الوزراء فإن مشروع القانون، الذى توافقت عليه الجماعة الصحفية والإعلامية بمختلف مكوناتها، سوف يحيله للنواب فور وروده من مجلس الدولة.

هذا اختبار سابع يخشى إجهاضه بتشكيل المجلس الأعلى للإعلام والهيئتين المخولتين إدارة ملفى الصحافة القومية وماسبيرو دون قانون يحدد الصلاحيات والأسس والقواعد سعيا لتأسيس نظام إعلامى جديد يضمن الحرية والمسئولية والمهنية فى سياق منضبط.

هناك بعد ذلك اختبارات أخرى مثل إجراء حوار مجتمعى شامل لتطوير وإصلاح التعليم خلال شهر على الأكثر، أى فى نوفمبر، بهدف وضع ورقة عمل وطنية لإصلاح التعليم خارج المسارات التقليدية حسب القدرات الاقتصادية الحالية.

التوجه لإصلاح التعليم يعنى بالضبط توجها لإعادة ترتيب الأولويات، وتلك مسألة تتطلب رؤية أوسع تغيب عن مصر بفداحة.

اختبارات نوفمبر قد تؤسس لانفراجة تؤمن البلد على مستقبله وتحمى بنيانه من أية احتمالات خطرة وقد تذهب رياحها إلى حيث المجهول عند نواصى الطرق المسدودة.

أرجو ألا تفلت الفرصة هذه المرة، كما أفلتت فرص أخرى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved