العقدة الأمريكية فى السياسة المصرية

عبد العظيم حماد
عبد العظيم حماد

آخر تحديث: الخميس 28 ديسمبر 2017 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، ومع تواصل حملة إعادة انتخاب الرئيس عبدالفتاح السيسى بصفة غير رسمية، بدأت أصوات وأقلام تتحدث من جديد عن المخططات الأجنبية ضد مصر والمنطقة، والتى يقف السيسى وحده صامدا فى مواجهتها، ومع أن هذه الأصوات والأقلام لم تحدد صراحة الدول أو القوى صاحبة تلك المخططات، كما لم تحدد مصادر معلوماتها المستجدة عن مساعى تلك القوى لعرقلة إعادة انتخاب الرئيس المصرى لفترة ثانية، فإن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من ذكاء طفل لإدراك أن المقصود هنا هو الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
وبغض النظر عن التناقضات المؤكدة فى هذه المقولة، وكذلك بغض النظر عن طابعها الشعبوى الذى بلغ فى مرحلة سابقة حد الادعاء بإحباط خطة أمريكية لغزو مصر دفاعا عن حكم جماعة الإخوان المسلمين، وذلك بعد أسر قائد الأسطول السادس الأمريكى، والادعاء بأن هيلارى كلينتون اعترفت فى مذكراتها باتفاقها مع حكومة الإخوان على تسليم سيناء أو جزء منها للفلسطنيين... بغض النظر عن ذلك كله فإننا نرى أن الأجدى فى هذه اللحظة هو مناقشة ما وصفناه فى العنوان بالعقدة الأمريكية فى السياسة المصرية.
لكن يستحسن المبادرة منذ الآن إلى التأكيد بأن هذه «العقدة الأمريكية» حاضرة وفاعلة فى الحياة السياسية لكثير من دول العالم، الكبيرة منها والمتوسطة والصغيرة، قبل الحرب الباردة وفى أثنائها، وبعدها، بحكم خروج الولايات المتحدة قوة دولية أعظم بعد الحرب العالمية الثانية، أى قوة لها مصالح فى كل شبر من كرتنا الأرضية، ولديها الموارد والأدوات التى تمكنها من حماية هذه المصالح، أو على الأقل الصراع من أجل حمايتها، إلى جانب جاذبية النموذج السياسى الأمريكى القائم على قيم الحرية والفردية، حتى فى أوج جاذبية النموذج الاشتراكى، وثورات التحرر الوطنى، وحركة عدم الانحياز.
نقطة ثانية قبل استئناف الحديث عن العقدة الأمريكية فى السياسة المصرية وهى أنه مع اعترافنا بالتراجع النسبى الواضح للمكانة الأمريكية فى النظام الدولى الحالى، والتقدم النسبى لقوى دولية منافسة مثل روسيا والصين تحديدا، فإن الولايات المتحدة لا تزال هى الأقوى بكل المعايير الاقتصادية والسياسية والقيمية، وخصوصا الاستراتيجية، بما أنها الدولة الوحيدة القادرة على خوض حربين كبيرتين على جبهتين متباعدتين فى وقت واحد، بما تملكه من قواعد منتشرة فى جميع أنحاء العالم، وأساطيل، وحاملات طائرات، وصناعات عسكرية، وتكنولوجيا فائقة التقدم، وخطوط إمداد، وموارد اقتصادية تعول جيوشا جرارة.
نعود إلى مصر، لنتبين من الملاحظتين السابقتين أن الاهتمام الأمريكى بالأوضاع السياسية فى مصر، ومحاولة التأثير فيها، ليس حالة استثنائية أو شاذة يختص بها الأمريكيون مصر، إن شرا وإن خيرا، ولكنها إحدى المعطيات الثابتة فى العلاقات الدولية فى هذه الحقبة من التاريخ.
بل يجب القول إن اهتمام القوى الكبرى بمصر منذ مجىء حملة نابليون إليها، وخروجها منها، هو أيضا من المعطيات الثابتة فى التاريخ المصرى طوال القرنين الماضيين، أى حتى من قبل تفجر البترول فى الخليج والعراق وإيران، والشمال الإفريقى، ومن قبل قيام إسرائيل أيضا، وذلك بحكم الموقع الجغرافى.
وبما أن الولايات المتحدة هى وريثة القوى الغربية الكبرى التى اهتمت بمصر، أو تصارعت عليها، أو احتلتها فمن الطبيعى أن تشغل مصر هذه مكانة بارزة فى الخطط الأمريكية الإقليمية والدولية، وقد لخص الأدميرال ستانسفيلد تيرنر مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية فى إدارة الرئيس الأسبق جيمى كارتر العقيدة الاستراتيجية الأمريكية نحو بلدنا، لضيوف مصريين على مائدة العشاء فى البيت الأبيض احتفالا بتوقيع اتفاقات كامب ديفيد بقوله: «إن مصر ضاعت من أمريكا لمدة تزيد على عشرين سنة، ولن نتركها تضيع منا مرة أخرى».
عندما قال تيرنر هذه الكلمات كان الاتحاد السوفيتى لا يزال حيا، وكان لا يزال يمد نفوذه الدولى من أفغانستان إلى اليمن الجنوبى فالصومال وإثيوبيا ثم أنجولا وزيمبابوى، وصولا إلى حركات التمرد فى أمريكا الوسطى والجنوبية، ولذلك بقى احتمال ــ ولو نظرى ــ لإمكان عودة مصر للتحالف مع السوفييت، لتضيع مرة أخرى من أمريكا.
بالطبع لم يعد هذا الوضع قائما الآن، وأصبحت مصر هى الأكثر حرصا على العلاقة الوثيقة مع واشنطن، التى وصفها وزير مصرى سابق للخارجية بأنها زواج كاثوليكى.
ومع أن هذا الوصف أثار زوابع استهجان متعددة المصادر فى حينه، فليس فيه مبالغة فى حقيقة الأمر، لأن الدور الأمريكى فى مصر تشعب إلى كل المجالات، وتغلغل إلى كثير من التفاصيل، وهنا تنبت جذور المشكلات التى كثيرا ما تعترض العلاقات المصرية الأمريكية، ونقصد افتقاد الرؤية والأداء المصريين لنقطة التوازن الدقيقة فى مثل هذا النوع من العلاقات الخارجية الرئيسية.
بدأ اضطراب العلاقات المصرية الأمريكية منذ السنوات الأولى لنظام يوليو 1952، فيما عرف بكسر احتكار السلاح، ومعركة الاحلاف، وسحب عرض تمويل السد العالى، ورفض القاهرة للمشروعات الأمريكية المبكرة لدمج إسرائيل فى الإقليم، ثم حرب اليمن، ومع ذلك ظلت هناك مجالات مفتوحة للتعاون والتفاهم، ولم تتحول الخلافات إلى مواجهة شاملة، إلا فى منتصف الستينيات، بتولى ليندون جونسون ــ بولائه المطلق لإسرائيل ــ منصب الرئاسة الأمريكية، ورد الرئيس المصرى جمال عبدالناصر على ذلك بالانخراط فى الخطط السوفيتية لمناهضة «الامبريالية» الأمريكية على مستوى العالم، دون مصلحة حقيقية لمصر،وهو ما لم تقع فيه الهند مثلا، رغم تحالفها مع موسكو، كذلك زاد عبدالناصر من وتيرة الدعاية الشعبوية المهيجة للجماهير العربية ضد الولايات المتحدة، من عينة فلتشرب أمريكا من البحر الأحمر، إذا لم يكفها البحر الأبيض، وهكذا ضاعت نقطة التوازن لأول مرة، وكانت النتيجة هى كارثة الهزيمة فى 1967 أمام إسرائيل.
ومع أن الرئيس السادات كان قد تعلم الدرس، قائلا إن عبدالناصر «ناكف» أمريكا كثيرا، وأن هذه «المناكفة كانت هى سبب مصائب مصر، فإنه بدوره بالغ فى الرهان على الأمريكيين، ليس فقط بتسليمهم 99%من أوراق اللعبة فى الشرق الأوسط، ولكن بتسليمهم أسرار الأسلحة السوفيتية، وبالانخراط فى خططهم السرية والعلنية لمناهضة السوفييت على مستوى العالم، فى أفغانستان وإثيوبيا وأنجولا وغيرها، وكان يطالب واشنطن علنا بالتحرر من عقدة فيتنام، تحريضا على الحرب ضد أصدقاء الاتحاد السوفيتى، بل إنه تطوع لتحريض ومساعدة صومال سياد برى على غزو إقليم أوجادين (الإثيوبى) نكاية فى مانجستو حاكم إثيوبيا الشيوعى، حليف موسكو، ثم صادق كل حلفاء واشنطن فى الإقليم وفى العالم، وتطوع بعداء خصومها، بل وبمجافاة الزعماء ذوى النزعة الاستقلالية، من أمثال هوارى بومدين فى الجزائر، وأنديرا غاندى فى الهند.
هنا أيضا ضاعت نقطة التوازن فى العلاقات مع أمريكا من مصر، وازدادت حدة الضياع بالاعتماد شبه الكامل على المعونة الاقتصادية والعسكرية الأمريكية، وكذلك بالاعتماد المطلق على ضمان واشنطن لالتزام مصر وإسرائيل باتفاقية السلام، فى ظل تعهد أمريكى دائم بتفوق الأخيرة عسكريا.
بالطبع ورث حسنى مبارك هذا الوضع، وبعد فترة اضطراب فى أثناء رئاسة رونالد ريجان، جاءت جريمة صدام حسين بغزو الكويت، ومشاركته فى التحالف الدولى ضد هذا الغزو، لتمنحه شهر عسل مع الرئيس بوش الأب، استؤنفت فيه بقوة محاولات تسوية القضية الفلسطينية والصراع العربى الإسرائيلى.
مع مجىء بيل كلينتون رئيسا لأمريكا كان العالم قد تغير، فبعد أن انهار الاتحاد السوفيتى، دخلت روسيا حقبة التيه تحت قيادة يلتسن، ونشبت حروب البلقان فى قلب أوروبا نفسها، وظهر الاتجاه نحو العولمة، وحرية التجارة، وعادت حقوق الانسان لتتصدر قضايا السياسة الدولية، ثم وقعت هجمات 11 سبتمبر الإرهابية على نيويورك وواشنطن فى بداية حكم بوش الابن، الذى استخلص بعد حربين فى أفغانستان والعراق أن التحول الديمقراطى فى الشرق الأوسط الكبير بقيادة مصر هو أنجع الوسائل لاجتثاث الإرهاب من جذوره، وكانت هذه الدعوة مع ميراث إدارة كلينتون سببا لاضطراب طويل فى العلاقات المصرية الأمريكية، لا يزال مستمرا حتى اليوم.
إذ على الرغم من أن الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما حرص قبل ثورة يناير 2011 على أن يقنع مبارك بأهمية التحول الديمقراطى فى الغرف المغلقة، ودون مواعظ علنية على حد تعبيره، فإن ثورة يناير التى فاجأت الجميع أجبرت الكثيرين على تغيير خططهم وأولوياتهم، إذ لاحت فرصة واعدة لتحول ديمقراطى سلمى فى مصر وفى المنطقة، لا يقصى أحدا، ويفتح آفاق التنمية والعدالة الاجتماعية، لكن جرى ما جرى مما هو معروف للكافة.
ثم انتهت رئاسة أوباما، وجاء دونالد ترامب لتدشن معه مصر حلف ضد «الإرهاب بشقيه السنى والشيعى»، ومشروعا لصفقة القرن ينهى الصراع العربى الإسرائيلى، بمشاركة السعودية والإمارات، وكثير من العرب وكثير من المسلمين وإسرائيل، وإذا بنا نفاجأ من جديد بهذه التحذيرات الغائمة من مقاومة أمريكية لإعادة انتخاب السيسى رئيسا لمصر.
سواء صدقنا هذه التحذيرات، أو اعتبرناها محاولة شعبوية لاستثمار الغضب من السياسة الأمريكية المنحازة بعدوانية لإسرائيل، فإن الأجدى هو البحث عن التوازن المفقود فى العلاقات المصرية الأمريكية، بما يحد من الدور الأمريكى فى شئوننا، ويحل العقدة الأمريكية فى السياسة المصرية، وهو ما لن يتأتى إلا بتوازن السياسات الداخلية تنمويا وديمقراطيا وعدالة اجتماعية، وعندها لا تكون مصر فى مهب الريح كلما جاء رئيس أمريكى جديد، أو تغيرت أولويات هذا الرئيس الأمريكى أو ذاك، أو انتصر اتجاه، وانهزم آخر فى عملية صنع السياسة الأمريكية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved