أن تكون الثورة «سوسة»!

ريهام سعيد
ريهام سعيد

آخر تحديث: الأربعاء 29 يناير 2014 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

سوسة تنخر أغلب وصلاتك بالعالم الخارجي، خُرّاج في كلا الفكّين يتركك في مواجهة العالم بوجه متورّم، وكدمة مزمنة يمتد أثرها لأكثر من مجرد صداع نصفي..

أدمنّا المُسكّنات التي فقدت تأثيرها بالاعتياد، والنتيجة هي أن القدرة على الاستيعاب: زيرو، القدرة على التمييز: زيرو، القدرة على التفاعل: زيرو، طب القدرة على التجاهل: زيرو، القدرة على الإنتاج\الإبداع\أي حاجة غير المتابعة الكابوسية للفيلم الهزلي الغريب: زيرو..

«زيرو» ضخمة تطاردك أينما ذهبت ولا تعرف لماذا استحققتها، ماذا كان عليك أن تفعل بالضبط؟!

سوسة تنخر وصلتك بالعالم الخارجي:

أنخرط مع الجموع في الحالة العامة من التوهة والحيرة والقلق، نعيش جميعًا في دوامة من الأحداث المفتعلة جدًا والخاصة جدًا جدًا، سلسلة مصممة خصّيصًا من أجلك ومش هتقدر تغمّض عينيك.. مثال.. علل: كل مؤيدي الجيش نزلوا للاحتفال في اليوم التالي لاستشهاد المجندين في انفجارات مروّعة.. عه؟!

لا تحاول الاستيعاب..

أستفيق أحيانًا على صدمة أننا منعزلون في قوقعة أحداثنا الغريبة عن العالم، أين نحن مما يحدث بالفعل في أي مكان على وجه البسيطة؟! حياتنا اليومية تنحصر في أخبار الاشتباكات وأعداد القتلى والمصابين ومعايرة كل فئة للأخرى بتُهم وهمية نغرق في تداعياتها عشان نحاول نفهم مين بيقول ايه بناءًا على ايه! ثم تتكرر السيناريوهات وتتحول الاصطباحات إلى محاولات للتكهن بالطرق اللي اتقفلت تباعًا للاشتباكات\ التفجيرات\احتمالات التفجيرات\ متلازمات الحرب على الإرهاب.. في النهاية يجب أن نقرر إذا كانت أجرة خصم يوم في الشغل تستحق العناء، ولّا نقعد في بيتنا باحترامنا أحسن..

علاقتنا بـ«جوجل» تنحصر في البحث عن «دكتور زكي عفيفي بباب اللوق» و«كهرمانة بيوتي سنتر»، ولا أرغب في الحديث عن الهوس البحثي عن البورن.. علاقتنا بالفن خارج إطار «السبكي» هي بضعة أفلام أميركية تحن علينا بها «هوليود» ولا يمكننا مشاهدتها إلا أول الشهر لأنها لا تزور السينمات الرخيصة، علاقتنا بالـ«تورنت» هي محاولة تحميل تلك الأفلام مسروقة.. وشكرًا جزيلًا على قد كدة.

في أغلب الأوقات أعيش متسقة مع هذه الدوامة ولا أحاول المقاومة، ربما أفتش فقط عن مصادر لإشباع احتياجاتي الفنية من معارض ومزيكا وأفلام مغمورة ومسرح مستقل، ثم تأتي الصدمة لتلطمني ذاتيًا وبدون تخطيط.. لأكتشف في كل مرة أن هناك عالم آخر يعيش في انسجام تام، ولا يأبه أننا خارج إطاره..

سوسة تنخر وصلاتك الشخصية:

مرهقون تمامًا وبشكل مثير للذعر، الجميع مُحمّل بعبء ثقيل غير قابل للإزالة.. الجميع على الحافة وفي انتظار القشة لينقسم وينهار تمامًا، كل العلاقات غير طبيعية بشكل ما أو بآخر.. كلنا ضحايا للالتباس، للاختلافات الجذرية اللي ظهرت فجأة، العلاقات تنهار دون سبب منطقي سوى إننا «مش قادرين..»، مش قادرين نكون أجزاء في حاجة تانية مُرهِقة، كفاية علينا إننا جزء من اللي بيحصل في البلد..

لم نعد قادرين على بذل الحد الأدنى من الجهد اللازم للتعامل مع البشر على عيبهم، الصداقات تنفرط لأننا مش حمل عتاب وزعل حتى لو كان طبيعي.. مين اللي ناقص يحس كمان بالذنب تجاه صديق؟! نحاول أن نتحلى باللامبالاة، أن نصدق إن وجود البشر مش فارق، نتمسك بالعزلة برفقة مسلسلات السيت كوم وسلاسل الأفلام ومواسم البرامج الشهيرة.. نحاول التخلص من اليوم داخل المحيط الآمن، بعيدًا عن المزيد من الإرهاق تحت شعار: كفاية.

العلاقات بالأهل مبتورة في منطقة ما من المنتصف، أزمات اختلاف الأجيال طبيعية، إنما أزمات تحميل الأجيال مسئولية تدمير حياة الأجيال الأخرى بالكامل، تختلف!

نحن نحملهم مسئولية ما وصل له الحال قبل أن نقوم بالثورة، ثم نحملهم مسئولية استمراره الآن لأنهم يصرون على التدخل.. نصمم بوسترات من نوعية «جيل عرّة!» تصورهم واقفين طابورًا طويلًا من العواجيز ليوافق على الدستور.. إلا أن نغزة في الصدر تضايقني وأنا أشاهد البوستر، ونحن نقرر وصمهم هكذا، يعود إلى ذهني صورة أي رجل في عائلتي كنت أجده طويلًا ومهيبًا ورائعًا.. حتى أتممت الثامنة عشر وبدأت أقيّم أراءه، إنما تظل هناك نقطة أنهم «الكُبار»\«السَّنَد»،لكنها لا تمنعني من الغضب بردو.. مزيج رائع من الهسس!

لا أتفق بالطبع مع الشتيمة، أفكر بصوتٍ عالٍ فحسب..

سوسة تنخر وصلتك بالعالم الخارجي (كلاكيت تاني مرة):

هل تعلم أن هناك بلد اسمها «لاتفيا»؟ أنا بصراحة لم أكن أعرف.. بلد بحالها موجودة وأنا ماعنديش خبر، المشكلة لا تكمن في ذلك.. تكمن حقيقةً أن «ريغا» عاصمة لاتفيا هي عاصمة الثقافة الأوروبية لهذا العام.. هل تعلم ما يعنيه ذلك؟

يعني أن «ريغا» السنة دي أفضل من باريس وبرشلونة وروما وفيينا وبروكسل ولندن و..و..و...، بقليل من البحث على «جوجل» عن شيء آخر بخلاف «موبايلات في القاهرة للبيع»، ستجد أن لاتفيا دولة لها تاريخ طويل جدا من الكفاح، تحولت أثناءه إلى مقاطعة روسية ذاتية الحكم في القرن الثامن عشر وتدمرت بالكامل خلال الحرب العالمية الأولى.. يعني من 100 سنة تقريبًا مكنش فيه «لاتفيا»، والنهاردة عاصمتها هي عاصمة الثقافة الأوروبية..

منذ أسبوع تقريبًا بدأت فعاليات الاحتفال بهذا الحدث عن طريق تشكيل سلسلة بشرية ضخمة ممتدة من المكتبة الوطنية القديمة في العاصمة إلى مبنى المكتبة الجديد، حيث تم نقل الكتب بين المكتبتين عن طريق تمريرها بين الناس من شخص لآخر..وبرغم أن درجة الحرارة كانت 12 تحت الصفر! بس مكنش فيه حد في البيوت، الناس كلها نزلت عشان تنقل الكتب..

كنت أتمنى أن أبعث برسالة للشعب اللاتيفي لأخبره أننا شهدنا أيامًا عديدة كهذه في القاهرة والأقاليم أيضًا، نزل الشعب فيها بأكمله إلى الشارع في عز البرد والحر لأسبب أتفه بكثير، كإسقاط حُكام، أو الاعتراض على إلقاء الجثث في سلة المهملات أو تفويض أحدهم لقتل آخرين، وحيثيات كدة...

سوسة تنخر وصلاتك الشخصية (كلاكيت تاني مرة) :

نظرية «أثر الفراشة» تقول بأن «رفرفة جناح فراشة في البرازيل ستفجر لاحقًا عاصفة في تكساس...»، أنا أصدق ذلك تمامًا، أصدق أن أدق تفاصيل كل شيء تؤثر فعليًا في كل شيء آخر..

إذا كان وضعنا في هذا العالم على هذه الدرجة من الهشاشة، فكيف بالله عليك تؤثر كل هذه الأحداث المتتالية التي يصعب اللحاق بها على روح وجسد ومرارة واحدة؟ مين فيه حيل يكون متفهم\عطوف\مهتم.. مين فيها حيل تكون أم طبيعية\زوجة مساندة\حبيبة سَكَنْ.. الجميع في حالة استنفار.. العلاقات يُكتب لها الفشل قبل أن تبدأ، ماعندناش طاقة ليها..

مثال: سمعت وأنا أكتب المقال الآن أنه تم منح الفريق السيسي رُتبة مُشير من قبل الرئيس "المؤقت" «عدلي منصور».. أردد في غيظ "عقبال مايبقى مهراجا!" وأرغب في المسك في خناق أحدهم ودب خناقة بدون سبب ثم الانعزال في غرفتي لمدة يومين..

الخاتمة:
«هذه الحرب قد صيَّرت من العُقلاء مجانين، ومن الأذكياء بُلهاء أو قلقين!»*.

*للكاتب: سعيد تقي الدين- موجة نار.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved