شرعية العدل

إبراهيم الهضيبى
إبراهيم الهضيبى

آخر تحديث: الجمعة 29 مارس 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

العنف السياسى بين المواطنين، والمتنامى منذ أشهر، أشد خطورة منه بينهم وبين مؤسسات الدولة، والعمل على فهم سياقه ينبغى أن ينطلق من رفضه، ليقصد إيجاد مخرج منه، لا تبريره على نحو يدخلنا فى حلقة مفرغة من العنف والعنف المضاد قد تصل لاقتتال مجتمعى، ولن يكون المخرج إلا ببناء شرعية تقوم على العدالة.

 

•••

 

العنف ليس واحدا، فبعضه جنائى يتعلق بحوادث القتل والسرقة وغيرها، وبعضه سياسى، كالذى يقوم فى مواجهة الدولة بمؤسساتها بسبب فشلها فى توفير الاحتياجات الأساسية للحياة من مأكل ومسكن وتعليم وصحة وأمن (كقطع طرق السكك الحديد والطرق السريعة بعد الحوادث، والاعتصامات والإضرابات العمالية)، أو بسبب اعتدائها على كرامتهم (كالمواجهات المتلاحقة الناتجة عن اعتداءات القطاع الأمنى على المواطنين)، أو الذى يقوم بين أطراف سياسية مختلفة.

 

تقول الأسطورة إن سيناريو الحرب الأهلية مستحيل، والواقع أنه لا دليل على الاستحالة، والمشاهد أن العنف السياسى بين المواطنين آخذ فى الصعود، بدءا من المواجهات المحدودة فى الذكرى الأولى للثورة وفى أيام الانعقاد الأولى للبرلمان، ومرورا بالعنف فى مظاهرات «كشف الحساب» التى تواكبت مع انتهاء الأيام المئة الأولى من ولاية الرئيس مرسى، ثم حرق مقرات الأحزاب من التيارين المتنازعين، فأحداث الاتحادية التى فقدت فيها ــ للمرة الأولى ــ أرواح، وانتهاء بالاعتداءات المصاحبة للتظاهر عند المركز العام للإخوان فى المقطم، فى المرة الأولى ضد المتظاهرين، وفى الثانية منها.

 

ردود الفعل تجاه العنف تتطور، بدءا من التدخل لمنع المواجهات والصلح بين الطرفين فى واقعة مجلس الشعب، لمحاولات التهدئة فى التحرير، ثم غض الطرف عن حرق المقرات، فالاتهامات المتبادلة بالمسئولية عن أحداث الاتحادية، فتفاخر كل طرف بـ«العلقة» التى أذاقها خصمه فى مواجهتى المقطم (فى المرة الأولى تبادل الإسلاميون عبر مواقع التواصل الاجتماعى صور أحد خصومهم يتعرض للضرب على قفاه، مصحوبة بتعليقات ساخرة لا تخلو من بذاءة، وفى الثانية تبادل النشطاء صورة أحد الإخوان يصارع نيران المولوتوف التى أمسكت بملابسه، مصحوبة بتعليق ــ لا يخلو من بذاءة ــ يقول «خروف مشوى».

 

ويستخدم كل طرف فزاعات يضمن بها اتحاد صفه بشيطنة الآخر، فيصير المتكتلون فى إحدى الجهتين «ميليشيات» لا تصلح غير القوة لمواجهتها و«خرفان» لا عقل لها الأفضل التخلص منها، وفى الأخرى «الكنيسة» و«الأقباط» و«العلمانيين» الرافضين للهوية «الإسلامية» للرئيس وحزبه، لا لسياساته وكفاءته، وفى الحالتين تتحول المشكلة من الموقف السياسى للوجود المجتمعى، إذ يرى كل طرف أن وجود خصمه مضر، وهو ما من شأنه تحويل العنف من سياسى إلى مجتمعى، الأمر الذى تتضاعف خطورته فى ظل تردى الأداء الأمنى فى القطاع الجنائى وارتفاع معدل الجريمة، بما يؤشر على تطبيع المجتمع علاقته مع العنف.

 

النتيجة أن أعداد المتشابكين تزيد فى كل مرة، بينما تقل أعداد الساعين لفك الاشتباك، وأن النطاق الجغرافى للعنف يتسع من القاهرة والمدن الكبرى إلى خارجها، وأنه يخرج من سياقه السياسى إلى المجتمع، ويتحول لرفض لنفس الوجود، كما حدث فى الاعتداء اللفظى والبدنى على قادة التيارات المختلفة بمجرد رؤيتهم فى الشارع أو المراكز التجارية.

 

العنف السياسى إذا ليس وليد اللحظة، وإنما هو متراكم متزايد، يتبادل طرفاه مسئولية إلقاء كرة الجليد، ويتشاركان فى مسئولية استمرار حركتها، التى تسير فى منزلق اقتتال مجتمعى متزايد، السير فيه للأمام أسهل من التوقف أو العودة للخلف، ويتحمل الحكام ــ بوصفهم كذلك ــ مسئولية الخروج منه.

 

•••

 

يحتاج التراجع عن هذا المنزلق لشعور الأطراف المختلفة بإمكان تحقيق العدالة من غير اقتتال، والخطوة الأولى لذوى السلطة إن أرادوا الحفاظ على شرعيتهم هى إشعار المتصارعين بإمكان تحقيق هذا العدل عن طريقها، وتعريفات العدل كثيرة، بعضها واسع (يتناول مسئولية الدولة فى توفير الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الرئيسة)، وأدناها الصورى، المعنى بالمساواة أمام القانون، وكلها غائب لم تنجح الدولة فى إقناع المختصمين بقدرتها على إيجاده، إذ عندما انتشرت فيديوهات التعذيب على أسوار الاتحادية لم يعاقب المجرمون فيها، وعندما صدرت تصريحات تحريضية على العنف، وأخرى تفتح أبواب العنف الطائفى بادعاء كون الخصوم من الأقباط (بعد أحداث العنف بساعات)، وثالثة تحرض المتظاهرين على استعمال العنف فى الرد على الإخوان، لم تتوجه الاتهامات لمصدرى التصريحات، ولا أمر بإحضارهم للتحقيق معهم.

 

غير أن الأمر اختلف هذه المرة فى أحداث المقطم، إذ واجهتها الدولة بالتحقيقات الجنائية الجادة، التى تضمنت أوامر ضبط وإحضار المتهمين بالتحريض والمشاركة فى أحداث العنف، وهى إجراءات ــ فى ذاتها ــ لا عيب فيها، غير أن السياق يخرجها من العدل إلى الجور، فقد أفقدها اقتصارها على لقطة واحدة فى مشهد مركب المشروعية السياسية، وأظهر المؤسسة العدلية والقانون كإحدى أدوات السلطة السياسية لا معيار تحتكم مع غيرها إليه، وبالتالى صار احتكام غيرها إليه مستبعدا، وإيمانهم بإمكان تحقيق العدل من خلالها ضعيفا إن وجد.

 

•••

 

إن العنف ضد المواطنين لأسباب سياسية جريمة ذات آثار محتملة خطيرة، غير أن النظام السياسى الذى فقد عصاه وخوف الناس منه لن يستطيع منعها إلا ببناء شرعية على أساس العدالة، وتلك العدالة ــ حتى فى تعريفها الصورى الضيق ــ لا تكون بتطبيق القانون على البعض دون الكل، ولن تكون الإجراءات الصارمة سببا فى تراجع العنف إلا إن شملت التحقيقات كل القيادات المشتبه فى تورطها فيه، وعلى رأسها قيادات الإخوان، ليشعر الناس بعدم استثناء الحكام من الخضوع للقانون.

 

إنما أهلك من كان قبلكم إنه كان إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved