لماذا تتعثر الثورات العربية؟

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الإثنين 29 أبريل 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

لم يكن المقال الذى نشره الكاتب الأمريكى توماس فريدمان منذ حوالى أسبوعين فى صحيفة نيويورك تايمز والذى دعا فيه إلى وقف وصف ما يحدث فى الوطن العربى منذ يناير سنة 2011على أنه ربيع للديمقراطية، مفاجئا ولا مدهشا، فقد أصبح المعلقون العرب أنفسهم يترددون فى إطلاق هذا الوصف على التطورات التى تعرفها تونس ومصر واليمن وليبيا منذ نجاح ثوراتها فى الإطاحة بحكامها السابقين، كما أصبح من المألوف تعدد مظاهر سخط المواطنين على الحكام الجدد فى هذه الدول. بل وحنينهم إلى الحكام السابقين.

 

وأسباب السخط على أداء حكومات مابعد الثورة عديدة. كان يفترض أن تنجح هذه الحكومات فى العبور ببلادها سريعا من المرحلة الإنتقالية، ولكن لا يبدو فى الأفق أن الخروج من هذه المرحلة سيحدث قريبا فى أى منها، فحتى فى مصر والتى قطعت شوطا أطول على هذا الطريق، فهى الوحيدة التى أصبحت تمتلك دستورا يحدد ملامح نظامها السياسى الجديد، ولكنها أصبحت تمثل نموذجا لما ينبغى على الشعوب المتطلعة للديمقراطية أن تتجنبه، فدستورها الجديد يلقى رفضا من جانب القطاع الأكبر من نخبتها المثقفة، ومن  عدد كبير من المواطنين، وحتى إذا كان هؤلاء ليسوا هم أغلبية المواطنين، ولكنهم قسم كبير من القوى المتعلمة وأصحاب الكفاءات الذين لا يمكن حكم البلاد بفاعلية ولا دفع جهود التنمية الشاملة فيها بدون رضائهم، وبدون حماسهم وانخراطهم فى هذه الجهود. درس التجربة المصرية المر هو أن نجاح المرحلة الانتقالية فى إرساء معالم نظام سياسى جديد يتمتع بالشرعية مستحيل ما لم يكن الدستور الذى يرسم ملامح هذا النظام موضع توافق واسع بين القوى السياسية والاجتماعية الأساسية فى البلاد موالاة ومعارضة.

 

●●●

 

ولكن علامات التعثر فى العبور من المرحلة الانتقالية لا تقتصر فقط على الإتفاق على معالم النظام السياسى الجديد، فربما يكون ذلك هو آخر مهام المرحلة الإنتقالية، علامات التعثر هذه تكاد تنسحب على أداء حكومات مابعد الثورة لكل مهام هذه المرحلة. يفتقد المواطنون الأمن فى الدول الأربع وخصوصا فى ليبيا واليمن، وبدرجة أقل فى تونس ومصر، ومع ذلك فمخالفة القانون نهارا وليلا قد أصبحت شبه هواية قومية فى مصر من سيارات  بدون أرقام تمضى فى شوارع مصر وطرقها، وبناء على الأراضى الزراعية يكاد يلتهم أربعين ألف فدان سنويا من أخصب الأراضى فى بلد يعانى من ضيق مساحته الزراعية، ومن انتشار للسلاح فى القرى والمدن، ومن آلاف من المحكوم عليهم جنائيا فروا من العدالة آمنين، ومن معتدين على أماكن العبادة المسيحية لاتصل إليهم أيادى الشرطة. كما أخفقت هذه الحكومات فى استخدام الأسلوب المناسب للعدالة الإنتقالية والتى لا تقتصر على المحاكمات القضائية بقوانين النظم الإستبدادية التى لا تعاقب على الإفساد السياسى وهو السبب الرئيسى للثورة، وإنما تستكمله بإقامة لجان المصارحة والتطهير وسيلة الرأى العام لتكفير هؤلاء عن خطاياهم وفرض العزل السياسى عليهم إن لم يقروا بمسئوليتهم عما اقترفوه فى حق شعوبهم. لم تنجح هذه الحكومات لا فى تخفيف معاناة مواطنيها أو قسم كبير منهم من شظف العيش، ولم توفر لهم الأمل بأن أوضاعهم يمكن أن تتحسن إذا قبلوا مؤقتا تضحيات يتطلبها خروج بلادهم من أزماتها الإقتصادية. بل تكاد هذه الحكومات تعجز عن ضمان الحفاظ على إقليم بلادها من التفكك بانفصال أقسام منه كما هو الخطر فى اليمن وبدرجة أقل فى ليبيا، أو فى تأكيد أن كل مواطنيها يتمتعون بحقوق المواطنة على قدم المساواة مثل غيرهم من المواطنين أيا كانت انتماءاتهم الدينية أو العرقية أو نوعهم أو موطن إقامتهم، وهو ما يفتقده المسيحيون والنوبيون وسكان سيناء فى مصر.

 

يتساوى فى هذا الإخفاق، ولكن ربما بدرجات مختلفة كل من أدار أو يدير هذه المرحلة الانتقالية فى الدول الأربع، من حكومة ائتلاف انتخابى فى تونس، ومجلس عسكرى وحكومة أغلبية انتخابية فى مصر وليبيا واليمن. فهل يكون سبب التعثر هو هذه الأشكال من سلطة المرحلة الانتقالية؟ إذ يغيب عن هذه الأشكال شكل وشرط ربما وفرا سياقا افضل لعبور هذه المرحلة، يغيب عن الدول العربية شكل الإئتلاف الواسع الذى يضم كل الأطراف التى شاركت فى الثورة على النظام الإستبدادى. وهكذا تجد قوى ثورية هى التى كان لها الفضل الأكبر فى المبادرة بالثورة نفسها مهمشة أو معزولة عن القرارات الكبرى الخاصة بإدارة هذه المرحلة، ويأتى فى مقدمة هذه القوى المهمشة جماعات الشباب فى تونس ومصر واليمن والأحزاب السياسية القريبة منها، كما يأتى من بينها هؤلاء الذين كان لهم الشرف فى قيادة الثورة على نظام القذافى فى ليبيا، وهكذا تمضى المرحلة الإنتقالية فى الدول الأربع وهذه القوى الثورية تقف متفرجة أو لاتملك سوى رمى الأحجار على من يديرونها. ومع تهميش هذه القوى الثورية يغيب أيضا الميثاق الذى يحدد خطوات الإنتقال ويلتزم به الجميع فى الحكم أو المعارضة.

 

●●●

 

ولكن هل هى مجرد مصادفة ألا يقوم هذا الإئتلاف الواسع بين القوى التى ثارت على النظام الاستبدادى؟، وألا تنجح فى صياغة ميثاق يحدد خطوات الإنتقال ومهامه؟ ليس هذا الأمر سوء حظ أو إغفال من هذه القوى عن ضرورتهما، ولكن لأنه على عكس حالات الانتقال فى مناطق أخرى فى العالم، فى شرق آسيا وفى أمريكا اللاتينية وشرٌق أوروبا تسود حالة من الاستقطاب السياسى حول أمور يعتبرها أطرافها أمورا أساسية. فى تلك الدول التى نجح فيها الإنتقال لم يكن هناك خلاف حول مفهوم الديمقراطية، ولم يكن التطلع إلى إقامة مجتمع مدنى سببا لتكفير من يدعو إليه. ولكن لابد من الاعتراف بأن مفهوم الديمقراطية كهدف تسعى إليه المرحلة الإنتقالية هو موضع خلاف بين الإسلاميين وغيرهم بدرجة حادة فى تونس ومصر، ولم يظهر بعد بهذه الحدة فى ليبيا واليمن. وهو خلاف أيديولوجى ولكنه يعكس أيضا اختلافا فى المصالح المرتبطة بمزاولة سلطة الحكم وما تتيحه من مزايا متعددة. ومما يزيد من تعقيد هذا الخلاف أن أطرافه على الناحيتين متعددون. ومن ثم يخشى طرف من الإسلاميين أن يؤدى اقترابه من غير الإسلاميين أن يستفيد طرف إسلامى آخر من هذا الإقتراب ليتهم الطرف الأول بخيانة مبادىء الإسلام، مما يجعل هذا الطرف الأول يبتعد عن القوى غير الإسلامية خشية أن يؤدى الهجوم عليه من طرف إسلامى آخرإلى خسارته أصواتا ومقاعد، فهما يتنافسان على كسب نفس الأصوات، وينطبق ذلك وربما بدرجة أكبر على غير الإسلاميين والذين هم أكثر تشتتا من الإسلاميين. وهكذا تدخل هذه القوى المتصارعة فيما هو أشبه بالمباراة الصفرية، التى  يعنى التنازل فيها خسارة للمتنازل ومكسبا صافيا لمن لم يتنازل، وهو على عكس الحال عندما تترك هذه الأطراف كلها خلافاتها الإيديولوجية للمواطنين يقررون ما يختارون منها مقابل الإتفاق على إجراءات سياسية تنقلها جميعا إلى وضع سياسى أفضل يكون مكسبا لها جميعا.

 

ولا شك أن سببًا آخر للتعثر فى حسم مهام المرحلة الانتقالية هو افتقاد من يديرونها فى الدول الأربع للكفاءة والحكمة، ربما لأنهم بدرجات مختلفة لم يمارسوا الحكم على أى مستوى قبل توليهم السلطة، وهو ما اعترف به رئيس وزراء تونس السابق والذى دعا إلى تأليف حكومة من التكنوقراط، وهو مالم يعترف به من يحكمون مصر،  ويزيد من مخاطر انعدام الكفاءة هو رفض من يحكمون استشارة من يعرفون. أما عن افتقاد الحكمة فسببه يعود إلى خوف من يحكمون أن تكلفهم عدم كفاءتهم خسارة انتخابات قادمة، ومن ثم يتمسكون بالسلطة يقينا منهم أنهم لو فقدوها فلن تعود لهم مرة أخرى.

 

هل هناك مخرج؟ أصارحك القول إن المخرج من هذه الورطة التاريخية صعب، ولكنه ليس مستبعدا تماما. إما أن يتعلم أطراف العملية السياسية من أخطائهم ويدخلون فى هذا الإتتلاف الواسع، أو تجبرهم جماهير ثائرة على الدخول فيه، وبخلاف ذلك سوف تستمر المرحلة الإنتقالية بكل ما فيها من اضطراب وتردى لأحوال هذه البلدان على كل الأصعدة، أو يتدخل فاعل آخر من خارج كل هذه الأطراف المتصارعة ويطيح بها جميعا، وتبدأ معه مرحلة انتقالية أخرى.

 

 

 

أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، ومدير شركاء التنمية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved