العالم يتحول من الوفرة إلى العجز
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 29 أبريل 2024 - 6:10 م
بتوقيت القاهرة
فى كتابه «رأس المال فى القرن الحادى والعشرين» تمكن الاقتصادى الفرنسى «توماس بيكيتى» من استخدام أدوات التحليل الكمى التاريخى لإثبات أن تراكم الثروات يتم بمعدل نمو يفوق كثيرا معدلات النمو الاقتصادى العالمى. والمعروف أن هذا التراكم فى الثروات لو أنه استمر بغير «كوابح» فإنه يخل بكل أوضاع التوازن الاقتصادى، ويؤدى إلى انتشار حالات من الفقر المدقع وعدم الاستقرار على كافة الأصعدة. الكوابح التى رصدها المؤلف كانت تدور حول كساد كبير وحربين عالميتين مدمرتين ذهب ضحيتها ملايين البشر، كانوا (إلى جانب عدد من الأحداث الأقل خطورة) سبببا فى إعادة توزيع الثروات وتخفيف وتيرة التراكم المذكور بعد انخفاض عدد السكان وتغيير هيكل الإنتاج وأولويات الاستهلاك وإعادة البناء... إذن فقد ساعد «بيكيتى» ربما دون أن يقصد على الإثبات الكمّى لطرح نظرية «مالتس» للسكان التى تؤكد على استمرار الفجوة بين الغذاء والسكان مع تفاوت وتيرة كل منهما، ما لم تتدخّل الكوارث. ولكن «بيكيتى» لم يدحض بشكل مباشر الطرح الجديد الذى يضع «الابتكار» فى مواجهة مع نظرية السكان، وأنه وحده قادر على إعادة التوازن بين الموارد والسكان دون الحاجة إلى الدمار والحروب الشاملة، التى خلا العالم منها منذ عام 1945.
تصوّر الاقتصاديون المعاصرون أن الإبداع والتقدّم التقنى يمكن أن يعيدا التوازن بين السكّان والموارد. شهد العالم خلال العقود القليلة الماضية ظهور الهندسة الوراثية فى علوم تنمية المحاصيل، وتكنولوجيا الإمطار الصناعى، وتحسين سلالات البذور، وتعظيم الاستفادة من الموارد الشحيحة، وتحلية مياه البحر، وإنتاج الطاقة الشمسية والطاقة التى تولّدها الرياح.. كل ذلك وغيره من مكتشفات واختراعات ساهم فى أن يعيش العالم خلال تلك العقود حالة من الوفرة، على الرغم من النمو السكانى الكبير، وتراجع معدلات الوفيات، لتحسّن مستويات الرعاية الطبية وانخفاض عدد الوفيات عند الولادة.
لكننى مازلت أرى صلابة نظرية السكان ونجاحها فى تفسير الاختلال بين الموارد والبشر حتى وإن كان الابتكار عاملا فاعلا فى تعطيل آلية النموذج المالتس، أو بالأحرى إطالة أمد التوازن بين السكان والموارد إلى حين. تمكّن الإبداع والابتكار من مواجهة الندرة المتزايدة فى عدد من الموارد خلال العقود الممتدة بين نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى ما يقرب من منتصف العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين. لكن العالم عشية مواجهة أكبر جائحة وبائية منذ زهاء القرن (جائحة كوفيد-19) بدأ يدرك انتقاله من حالة الوفرة إلى حالة الندرة، حتى مع بلوغ الابتكار والإبداع مستويات غير مسبوقة فى التاريخ البشرى. تلك الندرة تفرض قيودا كبيرة على النمو الاقتصادى وتوزيع غلته بين السكان، وتستدعى من الذاكرة طرح مالتس وإثباتات بيكيتى.
هناك العديد من العوامل التى ساعدت على زيادة الفجوة بين الطلب والعرض على مستوى العالم فى السنوات الأخيرة. منها ما هو عارض مثل جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية والحرب فى غزة.. ومنها ما هو هيكلى متجذّر فى بنية الاقتصاد العالمى الحالى ولا يتوقع أن يشهد تغيّرا فى المستقبل المنظور.
• • •
يتوقّع العالم أن ينتهى هذا القرن وفوق الكرة الأرضية ما يقرب من عشرة مليارات نسمة. هذا العدد الكبير يواجه مخاطر المجاعات والحروب من أجل البقاء والصراع على الموارد الشحيحة بشكل مخيف. المشكلة الحقيقية تكمن فى أن الابتكار الذى هو العامل الحاسم فى تعطيل الخلل بين النمو السكانى والموارد بات يلعب دورا كبيرا فى خلق «الطمع» و«النهم» الاستهلاكى اللذين يضاعفان من حدة الخلل بين نمو الموارد ونمو الحاجات البشرية.
من منتجات الابتكار منصات التواصل الاجتماعى، التى لعبت دورا مزدوجا فى نشر ثقافة التقليد والاستهلاك المفرط، وحوّلت مليارات البشر إلى نماذج نمطية متشابهة فى المزاج الاستهلاكى، راغبة فى تحقيق أكبر قدر من الإشباع للحاجات والرفاهية. وعلى الرغم من مشروعية تلك الرغبات، فإن العالم بموارده الشحيحة غير مستعد لتلك الطفرة الاستهلاكية، خاصة وأن الدور الآخر الذى لعبته مواقع ومنصات التواصل الاجتماعى كان معطّلاً للإنتاجية الحقيقية لصالح الإنتاجية الافتراضية. والفرق كبير بين منتج افتراضى يدر مليارات الدولارات على أصحابه وبين منتج حقيقى يستخدم مدخلات الإنتاج بغرض إتاحته للاستهلاك النهائى. هذا الأخير يحتاج إلى موارد طبيعية ومهارات عمل وساعات طويلة من الجهد البشرى واستهلاك الطاقة ورأس المال ولكن بعائد محدود يقل كثيرا عن عائد المنتج الافتراضى.
الابتكار أيضا كان سببا فى ظهور اللقاحات والعلاجات لأمراض مستعصية مما ساهم فى زيادة معدلات النمو السكانى وإطالة متوسطات أعمار السكان إلى مستويات قليلة أو منعدمة الإنتاجية لكنها بالطبع مستهلكة وتنتظر الإعالة من الآخرين. وهذا يتسبب فى مضاعفة أزمة التفاوت بين العرض والطلب. بعد أن عزز من «طمع» أعداد متزايدة من الناس أن يعمّروا لفترات أطول. النقص فى المعروض من خدمات العمل فى الدول المتقدمة ذات الهرم السكانى العجوز والنمو السكانى الضعيف أو السلبى، لا يمكن تعويضه إلا باستيراد العمالة من الدول الفقيرة كثيفة السكان. هذا بالضبط ما تكافحه التيارات اليمينية فى الدول المتقدمة حاليا، لتعمّق من أزمة اختلال التوازن بين العرض والطلب، وتساعد فى تحوّل الأزمة العالمية إلى أزمة فى جانب العرض، بعدما وضعت الكثير من القيود على هجرة العمالة. أما الدول الفقيرة فإن تراكم عنصر العمل بها مع غياب الاستثمارات اللازمة للتشغيل، أدى إلى تفاقم معدلات الفقر بها وتحوّلها إلى قنابل موقوتة للانفجار الداخلى والخارجى عبر تصدير التطرف والإرهاب.
كذلك كان لدخول ما يقرب من مليار وربع من قوة العمل إلى السوق العالمية بعد انخراط الصين فى اتفاقيات التجارة العالمية وانفتاحها على الاقتصاد المعولم، دور كبير فى إحداث طفرة فى المعروض السلعى والخدمى، لكنه وبعد مرور فترة قصيرة حوّل تلك الطاقة المنتجة إلى طاقة استهلاك ضخمة، تتطلّع إلى الرفاهية وفقا لمفهومها الغربى، الذى انتقلت إليها عدواه بفعل العولمة والتواصل المجتمعى الواسع. حتى إننا بتنا نرى الصين (ذات المزاج والتكوين الاشتراكى المتجذّر) يقف أبناؤها طوابير من أجل الحصول على المنتج الأخير للهواتف الذكية التى تنتجها شركة «أبل»!
الضغط إذن على الموارد صار كبيرا مع تغيّر الأذواق فى دول شرق وجنوب شرق آسيا التى تضم أكبر كتلة بشرية. هذا التغيّر فى الأذواق ينقل منحنيات الطلب إلى اليمين، فإذا أضفنا إليه قوة شرائية متزايدة لتلك الكتلة البشرية، فإننا بصدد طلب فعّال من شأنه أن يزيد الضغط على الموارد بمعدلات لا يمكن للابتكار أن يتصدّى لها (على الأقل فى الأجلين القصير والمتوسط).
• • •
على صعيد آخر فإن التغير المناخى الذى بات يجتاح العالم سريعا (بفعل التطور الصناعى والتقنى) بات يستدعى مبتكرات جديدة تعزز من القدرة على تحقيق «انتقال الطاقة» لتخفيض البصمة الكربونية وانبعاثات الغازات الدفيئة لتخفيض الاحترار العالمى. تلك المبتكرات صارت كثيفة استخدام المواد الخام والمعدنية بصورة أكبر من نظيراتها التقليدية كثيفة الانبعاثات الضارة. على سبيل المثال فإن السيارات الكهربائية كثيفة استهلاك المعادن أكثر ست مرات من السيارات ذات محركات الاحتراق الداخلى. ويتطلب توليد الطاقة الشمسية عبر محطاتها الكبيرة أربعة أضعاف المواد المطلوبة من المحطات التى تعمل بالغاز. كما أن الحاجة إلى تخزين الطاقة للتعامل مع عدم استقرار الإمدادات المولّدة من الشمس والرياح، ستساهم أيضا فى زيادة الطلب على المعادن والمواد الطبيعية.
مكافحة فناء البشرية عبر تعطيل التغير المناخى تستلزم إذن استهلاكا متزايدا من المواد الخام والثروات المعدنية، وليس استهلاكا أقل معززا بالابتكار، لأن المبتكرات الحديثة فى مجالات انتقال الطاقة - مثلا - مازالت بدائية ومنخفضة الكفاءة نسبيا. هذا الخلل يعزز من قوة الجنوب النامى على حساب الشمال المتقدّم، إذ إن المواد الخام تتوافر بشكل أكبر فى الدول النامية والناشئة، ولكنها عند التبادل التجارى تحصل على عائد أقل من نظيرتها التى تحسن استغلال الابتكار لمضاعفة القيمة المضافة للمنتجات. لكن ما نفع الابتكار (كثيف الموارد) لو أن تلك الموارد تم حجبها أو استغلالها فى مواطن استخراجها؟!
هذا بالضبط كان مدار جانب من حرب الرقائق بين الولايات المتحدة والصين، عندما أرادت الأولى قطع الصين عن سلاسل إنتاج وتوريد الرقائق المتقدّمة لتعزيز مفهوم التفوّق الأمريكى، فما كان من الصين إلا أن لوّحت بقطع إمدادات الجاليوم والجرمانيوم عن أمريكا وحلفائها، وهما من أهم العناصر المطلوبة لإنتاج الرقائق، وتمتلك الصين ميزة نسبية كبيرة فى إنتاجهما وإتاحتهما للأسواق العالمية.
• • •
احتياجات تحوّل الطاقة والتحوّل التكنولوجى وإشباع احتياجات الكتل المستهلكة النهمة أصبح يضغط بشكل كثيف على رءوس الأموال عبر الحدود. تحوّلت الدول من الفائدة الصفرية خلال عقود الوفرة إلى معدلات فائدة مرتفعة. تلك المعدلات تمثّل ضريبة خفية على الدول الأكثر استدانة، وتحرم الدول ذات الوفرة فى الموارد الطبيعية من الاستغلال الذاتى لمواردها. كذلك فإن الاستثمار طويل الأجل المستقل عن الدورات الاقتصادية (secular investment) والمطلوب لاحتياجات التنمية المستدامة، قد صار شحيحا لصالح الاستثمار الذى يبحث عن الفرص العارضة. هذا التحوّل الهيكلى فى بنية تدفقات الاستثمار، مع تحوّل بنية تدفقات رءوس الأموال المقرضة تجاه المنتجات الساخنة يهدد النمو الاقتصادى بشكل عام، ويجعل التوازن المنتظر بين الإنتاج والسكان أمرا شديد الصعوبة مرتفع التكاليف.