الحكم بالشعار الإسلامى

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 29 مايو 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

يسود المنطقة العربية، مشرقا ومغربا، مناخ حروب أهلية مفتوحة ضد الذات، بمكوناتها الأصلية والتفرعات، يلعب فيها «الإسلام السياسى» دورا قياديا بكل المسئوليات المترتبة عليه.

 

من اليمن إلى أقطار المغرب العربى يتهدد التصدع وحدة المجتمعات فى كل من تلك الأقطار وقد كانت بين المسلمات، نتيجة انهيارات متتابعة فى «الدول» التى كانت تتبدى وكأنها ضمانة الوحدة الداخلية والهوية القومية.

 

قد يطول الجدل حول مسئولية «النظام» أو «الأجنبى» سواء تمثل بالمحتل القديم أو بالمهيمن الأمريكى الجديد، بعنوان إسرائيل، عن النتائج الكارثية التى تعيشها اليوم «الدول» التى كانت مضرب المثل فى وحدتها الوطنية الصلبة، كمصر، أو التى انتهت إليها «دول» أخرى نتيجة دكتاتورية النظام الحاكم فيها كليبيا، أو نتيجة تورط «النظام» فى حروب خارجية استهلكت مقدرات البلاد وخلخلت مرتكزات الوحدة الداخلية، كما فى العراق (الحرب الطويلة ضد إيران ثم غزو الكويت)، أو نتيجة اندفاع النظام السورى إلى استخدام العنف فى مواجهة تظاهرات الاحتجاج السلمى وقبل دخول العالم كله إلى مسرح هذه « الحرب».

 

لكن النتيجة المؤكدة أن العديد من الأنظمة التى كانت قائمة قد تسبب فى خلخلة مرتكزات الكيان وفرض إعادة النظر فى شرعية وجود الدولة أو ــ أقله ــ فى قدراتها على الاستمرار على قيد الحياة.

 

ولقد يكون مفجعا أن يتهاوى «الربيع العربى» الذى رأى فيه كثيرون نقطة تحول للخروج من عصر الطغيان إلى الديمقراطية والحرية والوحدة، وأن يصبح مصدرا للقلق على حاضر هذه المنطقة العربية بمجملها، مشرقا ومغربا، وأن يتسبب فى توظيف الشعار الدينى فى مواجهة الشعوب إلى حقوقها فى «الحكم الرشيد».

 

الواضح، حتى هذه اللحظة أن «الربيع العربى»، وبغض النظر عن مصدر هذه التسمية التى جاءت من الخارج قطعا، يتبدى يوما بعد يوم وكأنه الاسم الحركى للحرب الأهلية العربية أكثر منه الوعد بغد عربى أفضل فى ظلال الديمقراطية والتقدم والعدالة الاجتماعية وتوكيد الهوية الوطنية.. ولعل التسمية تساهم فى التخفيف من رفع الشعار الإسلامى راية للنظام الجديد.

 

صحيح أن أنظمة القمع التى كانت قائمة لم تكن تعبر عن إرادة مواطنيها بل لعلها كانت تزور هذه الإرادة وتقزم البلاد التى حكمتها وتلغى دورها الوطنى والقومى، لكن البديل قدم نفسه وكأنه امتداد لها.

 

●●●

 

كلنا يتذكر الدور الريادى لمصر منذ منتصف الخمسينيات وحتى خريف سنة 1970، حتى بعد السقوط فى قاع هزيمة 1967، والتى لم تمنع قيادتها من مواصلة جهودها لتوحيد الجهود العربية فى مواجهة العدو الإسرائيلى، وآخرها قمة القاهرة عشية وفاة عبدالناصر لوقف «الحرب» بين النظام الأردنى وحركة المقاومة الفلسطينية.

 

اليوم لا مجال للتخيل بإمكان «توحيد الصف العربى» الذى صار صفوفا متواجهة.

 

بل إن دولا عربية غنية وذات نفوذ لا تنكر مشاركتها فى تغذية الحروب الأهلية فى دول عربية أخرى، بالسلاح والمال، وبتسهيل وصول «طلاب الشهادة» تحت الشعار الإسلامى إلى «ميادين الجهاد» المختلفة فى مشارق الأرض العربية ومغاربها... وكذلك بالنسبة لتأمين السلاح والمال و«الاعتراف» الدولى.

 

وعبر هذا التحول الدراماتيكى فى المواقف تفجرت «حرب الإخوة» وكانت الجامعة العربية أولى الضحايا وأخطرها، إذ تحولت الجامعة إلى منصة لتشهير الأنظمة العربية بعضها بالبعض الآخر، والى «خندق قتالى» ومجرد معبر لشكاوى أنظمة ضد أخرى إلى مجلس الأمن الدولى.

 

وبديهى أن تحل هيئات دولية تم استيلادها على عجل محل جامعة الدول العربية أو فوقها، كمثل «أصدقاء سوريا».. بعد أن فرض على الجامعة أن «تطرد» دولة مؤسسة لقيامها، وإن تعطى مقعدها فى قمة الدوحة لتنظيمات معارضة تحاول عبثا أن تتوحد وإن تكون لها قيادة مشتركة و«صندوق واحد» للأموال التى تبعثر على الهيئات والجبهات والائتلاف المختلفة، سياسية وعسكرية، أكثريتها الساحقة تقيم فى المهاجر الأوروبية، وتجول بين العواصم طالبة الدعم والتأييد للشعب المقتول فى الداخل.

 

ولأن المصالح متناقضة إلى حد التضارب فقد تمددت التنظيمات رافعة الشعار الإسلامى بين إخوانية وسلفية وجهادية، فى حين كاد يضمحل وجودها فى «الداخل» الذى تحول إلى جبهات عسكرية مقتتلة تدمر حروبها الماضى بتراثه الحضارى الغنى والمميز، كما تدمر بالنار والدم حاضر سوريا وتهدد مستقبلها بالضياع وهويتها بالاندثار، وتلك خسارة قومية فادحة.

 

وها نحن نشهد «حروبا» فعلية على السلطة أخطرها فى ليبيا التى يتهاوى كيانها السياسى ويكاد «ثوارها» متعددو المنابت والميول، وإن غلب على معظمهم التوجه الإسلامى، يعجزون عن تشكيل حكومة جامعة للأطراف جميعا وقادرة على حفظ وحدة هذه البلاد هائلة المساحة والثروة قليلة السكان، بدولة لجميع مواطنيها الذين لا تخفى أكثريتهم حنينها للعودة إلى نظام الولايات بدلا من الدولة المركزية.

 

كذلك فإننا نشهد صراعا مفتوحا بين الإسلاميين فيها، إخوانا وسلفيين، يدفع البلاد نحو أتون الحرب الأهلية تحت شعارات الصراع على السلطة وموقع الإسلام فيها.

 

●●●

 

أما فى مصر فإن وصول الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم لم ينه الصراع على السلطة بينهم وبين السلفيين، فضلا عن الصراع الطبيعى بينهم وبين الأحزاب والقوى الديمقراطية، بل وبين الأكثرية الساحقة من المصريين المعروفين بتقواهم وتدينهم العميق وإن كانوا لا يرون فى الإسلام حزبا يصارع من اجل الوصول إلى السلطة بأى ثمن... حتى لو كلفه ذلك إضفاء مسحة أمريكية على شعاره الدينى، من اجل قبوله دوليا، والمبادرة إلى مساعدته اقتصاديا عبر صندوق النقد الدولى أو البنك الدولى وكلاهما له سياسته المحددة والتى لا تتوقف كثيرا أمام تدين المسئولين فى هذا النظام أو ذاك بل تحكم على توجهاتهم السياسية وخططهم السياسية وخططهم الاقتصادية... ومفهوم أن أمان إسرائيل واطمئنانها إلى سوية العلاقة مع الحكم الجديد بين «المعايير» التى تحكم قرار هذه المؤسسات الدولية، من ليبيا إلى تونس إلى مصر.. ولعل هذه التنازلات الجسيمة قد كشفت هؤلاء الحكام من الإسلاميين أمام شعوبهم، بمن فى ذلك الجمهور الذى كان يفترض ضمنا أنهم ربما يملكون ما يساعد على إخراج البلاد من أزماتها الخطيرة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا... فلم يظهر أن لديهم خطة واضحة للحكم أعدت بعناية وبدقة مفيدة من تجاربهم الحافلة.

 

الأخطر أنهم تصرفوا وكأنهم يريدون السلطة، بأى ثمن، ولوحدهم، إذا أمكنهم، وبشراكة رمزية مع قوى أخرى «حليفة» وشريكة فى الشعار الإسلامى، إذا ما اضطروا إليها ولو مؤقتا. ثم إنهم اعتمدوا، وإلى حد كبير سياسات نظام الطغيان الذى أسقطه «الميدان» ذاتها، فى السياسة وفى الاقتصاد، بل وقد انعطفوا للتصرف مع مناصريه والمفيدين منه وكأنهم «احتياطى دعم» لحكمهم... لا سيما وقد فعلوا كل ما يمكنهم من اجل التخفيف من فداحة الارتكابات التى يحاكم عليها رموز النظام السابق.

 

أين الربيع العربى فى هذه الدول التى انتصرت ميادينها بإسقاط أنظمة الطغيان؟! وهل يكفى الشعار الإسلامى وحده للادعاء بان حَملته قد أنجزوا «الثورة»، وأن وصولهم إلى السلطة هو «انتصار لإرادة الشعب» وكفى به إنجازا تاريخيا يعيد الاعتبار إلى الدين الحنيف كبرنامج للحكم.

 

ثم إن هذه الدول تحديدا تعيش أوضاعا مضطربة تستولد شعورا بالخيبة والخذلان عند الجماهير التى اندفعت إلى «الميدان» تحركها إرادة التغيير والتطلع إلى مستقبل أفضل... ولم يكن إيمانها بالدين الحنيف ناقصا، ولا هى كانت تطلب مزيدا من المبشرين والدعاة والملتحين بجلابياتهم الطويلة أو القصيرة، لا فرق.

 

●●●

 

إن صورة «الربيع العربى» عبر الأنظمة التى تدعى الانتساب إليه، أو عبر الدول الغربية بالقيادة الأمريكية الداعمة لهذه الأنظمة والتى نجحت فى احتوائها من دون مجهود يذكر، تبدو مشوشة ومشوهة، وهى لا توحى بالربيع مطلقا، بل لعلها تقدم صورة مجسمة لفشل الإسلام السياسى فى تقديم نموذج معاصر للحكم، عبر تخطى أحقاده ومرارات تجاربه السياسية... بل إن منهج من وصل إلى سدة السلطة منهم يقوم على التبشير بين مؤمنين بالدين الحنيف، وكأن المسلمين لم يهتدوا إليه من قبل فى انتظار وصول هؤلاء الدعاة بجلابياتهم القصيرة ولحاهم الطويلة ونهجهم التكفيرى لكل من خالفهم الرأى، بل كذلك لكل من طالبهم بإثبات تميزهم عن أنظمة الطغيان التى أسقطها الميدان خلال السنتين الماضيتين، فضلا عمن قد يطالبهم بالمشاركة فى السلطة التى لم يصلوا إليها بالبيعة بل بالحد الأدنى من أصوات الناخبين.

 

ما زال الربيع العربى بعيدا جدا. والخوف أن تحوله الممارسات الخاطئة المعززة بالتعصب الحزبى مجللا بالشعار الدينى، إلى خريف بائس..

 

وأخطر ما فى هذه التجربة التوغل فى مواجهة الإرادة الشعبية إلى حد استخدام العنف وإسالة دماء الكثرة المعارضة، بما يعيد الاعتبار إلى نظام الطغيان فيظهره وكأنه قد أساء الأمانة وتعسف فى الحكم ولكنه لم يوغل فى دماء شعبه ولا هو تسبب فى ضرب الوحدة الوطنية بالفتنة.

 

 

 

رئيس تحرير جريدة «السفير» اللبنانية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved