استراتيجيات تقويض المجتمع المدنى

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الإثنين 29 مايو 2017 - 10:30 م بتوقيت القاهرة

نشر مركز كارنيجى للسلام الدولى دراسة لـ«ساسكيا بريشنماشر» ــ الزميلة ببرنامج الديمقراطية وسيادة القانون بالمركز ــ تتحدث فيها عن الانتهاكات التى يتعرض لها المجتمع المدنى وعن إغلاق المجال العام الذى أصبح سمة أساسية للحياة السياسية فى بعض الدول. فقد أصبح المجتمع المدنى أخيرا يواجه صعوبة فى محاولاته للإبقاء على دوره وفعاليته فى العالم أجمع إلا أن هناك دولا تتصدر المشهد فى عرقلة دور المجتمع المدنى بل وقمعه؛ وقد تناولت الباحثة حالة كل من روسيا ومصر وإثيوبيا.
تتناول الباحثة هذا الموضوع من واقع أن دول العالم أصبحت تتجه أخيرا نحو تقييد أنشطة المجتمع المدنى والمنظمات غير الحكومية خاصة تلك التى تعمل بالمجال الحقوقى والسياسى. ووفقا للدراسات التى أعدت فى هذا الشأن فقد قامت أكثر من 60 دولة بين عامى 2014ــ2016 بتقييد حرية الأفراد وحرية التجمع كما قامت بتقييد عمل المجتمع المدنى وعرقلة قدرته فى الحصول على التمويل اللازم. تستخدم الأنظمة فى ذلك أساليب رسمية وغير رسمية، كما تتجه لسياسات وإجراءات غير متوقعة، وينتج عن ممارساتها تلك ردود فعل مختلفة على المستوى الداخلى خاصة تلك التى تصدر عن الناشطين والمنظمات، وفى ذات الوقت تؤثر على سياستها الخارجية وعلاقتها بالدول الأخرى سواء تلك الداعمة لحقوق الانسان أو الممولة لتلك المنظمات.
أشارت الباحثة فى دراستها ــ بشكل عام وقبل أن تستفيض فى حالة كل دولة على حدة ــ إلى السبل والأساليب التى تتبعها تلك الدول فى إغلاق وتقييد المجتمع المدنى وتوضح كذلك النتائج المترتبة على ذلك وردود فعل تلك المنظمات. أولى تلك الممارسات هى قيام الأنظمة فى تلك الدول باستخدام قيود وتكتيكات واسعة تتراوح بين الوصم والتشهير بتلك المنظمات لدفعها واجبارها على تغيير أنشطتها، حيث تقوم بإثارة الشكوك لتشويه سمعة تلك المنظمات الحقوقية والسياسية وكذلك سمعة النشطاء والحقوقيين ووصمهم إما بالعمالة للخارج أو بالدعوة للتطرف أو بممارستهم ودعمهم للإرهاب. ثانى تلك الممارسات هى اللجوء للإجراءات القانونية؛ فبالإضافة إلى القوانين التى تسيطر على تلك المنظمات غير الحكومية وتقيدها وتعرقل عملها تستخدم قوانين أخرى كمكافحة الارهاب والتطرف والجاسوسية وغيرها، كما تقوم بإنفاذها بشكل انتقائى ومبهم وغير متوقع مما يثير الزعر والخوف بين النشطاء والسياسيين، بل ولا يتعذر عليها سن قوانين خصيصا لعرقلة عمل تلك المنظمات. الوسيلة الثالثة والأهم هى فى ذلك هى تطبيقها لمقولة «فرق تسد» حيث تقوم بزرع الفتنة والخلافات بين المنظمات والنشطاء وتهدف بذلك تفتيت قوة المعارضة؛ فتقوم مثلا وبشكل انتقائى بصرف مكافآت لجهات فاعلة مدنية دون أخرى أو تكافئ وتشجع الموالين لها على حساب الآخرين.
أكدت بريشنماشر مع ذلك على خصوصية كل حالة، فكل نظام له أساليبه أيضا التى تميزه عن الآخر وإن كان كله يخدم نفس الهدف المتمثل فى التضييق على هؤلاء الفاعلين. ففى حالة روسيا يقوم النظام بنزع الشرعية عن التمويل الخارجى ويقوم بتزكية المنظمات غير السياسية وتلك الموالية للحكومة باعتبارها أكثر إفادة للمجتمع. على الجانب الآخر لا يتورع عن تشويه سمعة النشطاء والمنظمات السياسية المستقلة، هذا بالإضافة للتضييقات والتعسفات الاجرائية الادارية والقانونية التى لا تنتهى. يتجه النظام إضافة لذلك للمحاكمات الجنائية الانتقائية للنشطاء والمعارضين من أجل اضعاف تلك الجماعات والمنظمات الحقوقية وتهميشها وتخويفها. من ضمن الأمثلة التى أشارت لها الكاتبة فى الحالة الروسية هى استخدام المسئولون قانون عام 2002 لمكافحة التطرف فى مواجهة المجتمع المدنى؛ حيث يتم اتهامهم إما بالتطرف أو نشر الافكار العنصرية بالبلاد أو بمحاولة نشر الارهاب، وهو تحديدا ما تعرضت له «لجنة موسكو للمساعدات المدنية» والتى تهتم بشئون وحقوق اللاجئين والمهاجرين والتى قام البرلمان باتهامها بتغطية جماعات اجرامية اثنية، وتوقفت شهور حتى تمكنت من استئناف عملها مرة أخرى.
أما عن الحالة المصرية فتشير الكاتبة لوجود مرحلتين أساسيتين مرحلة 2011ــ2013 فترة المجلس العسكرى وحكم الإخوان المسلمين، وفترة ما بعد 2013. ورغم اتباع النظام لنفس الأساليب إلا أن التضييق اشتد عقب حكم الرئيس عبدالفتاح السيسى. ويقوم النظام فى مصر بالتضييق على المجال العام وعلى تلك المنظمات من خلال التدابير المشددة تتمثل فى استهداف السلطات للحقوقيين ومنظمات حقوق الانسان، واتباعها أساليب كحظر السفر، وتجميد الأموال والمضايقات القانونية. إضافة لذلك يضيق النظام على إمكانية الحصول على التمويل الخارجى ويوجه للنشطاء والمنظمات تهم كالعمالة للخارج بل ويعرضهم للمحاكمات، وقد ظهر هذا جليا فى أزمة التمويل الخارجى لمنظمات المجتمع المدنى عقب ثورة يناير 2011، وبالتالى تعانى تلك المنظمات والمبادرات المدنية ومبادرات التنمية المحلية من أجل الحصول على الموارد اللازمة لاستمرارية عملها. أما عن فترة ما بعد 2013 ــ فإضافة للأساليب السابقة ــ تمادى النظام فى استخدام حالات الاختفاء القسرى واحتجاز الناشطين والمعارضين المشتبه بهم باسم مكافحة الإرهاب. وهذا بدوره أضعف من منظمات المجتمع المدنى مجددا ورغم مكافحة بعضها من أجل الاستمرار إلا أن تلك الأساليب القمعية إنما دفعتها لإعادة ترتيب أولوياتها وتقليص عدد العاملين بها وهكذا.
فى إثيوبيا أيضا يجبر النظام المجتمع المدنى على التحول من الجانب الحقوقى للجانب الخدمى «أى تقديم الخدمات»، ويقوم بالتضييق على التمويل الذى تتلقاه، بل ويمارس القمع باسم مكافحة الارهاب وتعتمد كذلك على الطوارئ فى دحض وإخماد أى معارضة فى المناطق الريفية مما يزيد من حنق وغضب النشطاء.
***
تشير بريشنماشر هنا إلى أن كل ذلك إنما يترتب عليه آثار وينتج عنه أيضا ردود فعل مضادة. فتلك الممارسات بما ترتبه من نقص فى التمويل وعرقلة للاجراءات من خلال البيروقراطية والتدخل الحكومى دفعت العديد من تلك المنظمات لتوقيف عملها أو إعادة توجيه نشاطها كما حدث فى إثيوبيا. كما أنها تؤثر بدورها على التواصل المجتمعى «أفقيا» ــ بين الجهات الفاعلة ــ و«رأسيا» ــ بين النشطاء والنخب المجتمعية ــ وهو ما يقلل من إمكانية تشكيل ائتلافات ويؤثر على قدرة النشطاء على إجراء مناقشات سياسية جادة ومؤثرة.
فى ضوء ذلك وبمحاولة تلك المنظمات تخطى تلك العقبات فقد بدأت بالبحث عن مصدر بديل للتمويل من خلال «اشتراكات العضوية ــ الأنشطة الربحية ــ التمويل الجماعى» رغب محدودية نسب نجاح تلك السبل. فى حين قام آخرون بتقليل نشاطهم السياسى كى يمكنهم الحصول على التمويل الأجنبى أو الدعم الحكومى. أدى التضييق فى الإجراءات القانونية والادارية وإجراءات التسجيل أيضا لدفع العديد من النشطاء للتخلى عن المنظمات غير الحكومية الرسمية لصالح المنظمات والنشاطات غير المسجلة وغير الرسمية.
وتختتم الباحثة بما ترتبه تلك الممارسات القمعية على مستوى العلاقات الخارجية؛ فتؤكد أن تركيز المجتمعات الغربية على المصالح الأمنية والجغرافية فى الوقت الذى تقمع وتعرقل فيه تلك الدول عمل المجتمع المدنى قد أدى إلى تنحية تلك القضايا جانبا فى المناقشات والملتقيات الدولية ما أدى إلى تنسيق غير مكتمل الأركان وترتب عليه بالتالى وجود فجوة بين الدول فيما يخص تلك القضايا، وهذا يرجع بالطبع لما تواجهه الولايات المتحدة والدول الأوروبية من انقسامات حول جدوى التدخل والدفع فى اتجاه تدعيم تلك القضايا أو الابتعاد وتركها على ما هى عليه.

إعداد ــ تغريد مجدى نور

النص الأصلى:

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved