الإسلاميون والليبراليون وبناء الدولة

مصطفى النجار
مصطفى النجار

آخر تحديث: الجمعة 29 يونيو 2012 - 8:45 ص بتوقيت القاهرة

منذ بدايات القرن العشرين عرفت مصر تمايزا واضحا بين خطين فكريين أساسيين وهما التيار المحافظ بشتى تنويعاته وتيار التحديث بمختلف اتجاهاته، بدأت الجذور الأولى لظهور التيارين عقب ثورة 1919 وما أعقبها من تغيرات مجتمعية غيرت من الصورة التقليدية للمجتمع المصرى وانقسم المصريون بين فريقين الأول يرى أن هناك عملية تغريب واستهداف للهوية المصرية ذات الصبغة الدينية المتأصلة فى نفوس المصريين، والفريق الثانى يرى أن مصر يجب أن تخرج من أسر تجربتها التاريخية وارتباطها بدولة الخلافة لتتحول إلى نموذج الدولة الحديثة التى تقوم على المدنية والتحضر وتفكيك موروثات الماضى وتحرير العقل وابعاده عن خطاب الدين الذى ظل يتحكم فيه لقرون طويلة.

 

كانت جذور التيار المحافظ هى الأشد قوة ورسوخا فى الأرض ولكن فى نفس الوقت شكل التمازج المجتمعى الذى أحدثه الاحتلال البريطانى لمصر ومن قبله الاحتلال الفرنسى وبدء ثورة الاتصالات فى مرحلتها الأولى طوفانا عارما اجتاح حياة المصريين وفتح عيونهم على آفاق جديدة للحياة لم يعهدوها من قبل وانبهرت قطاعات مختلفة من المصريين بوهج الحضارة الغربية الوافدة اليهم غير أن هذا التأثر لم يكن ايجابيا فى كل جوانبه خاصة تركيز البعض على المظهر دون الجوهر والتعامل بثقافة الاجتزاء مع هذه المنظومة الحضارية الوافدة.

 

وشهد المجتمع المصرى فى هذه الفترة معارك ضارية بين الطرفين حتى إن تأسيس جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 كان كردة فعل ومقاومة لتقدم تيار التحديث والتغريب وتغلغله فى أوساط المجتمع المصرى وكانت الفكرة الأساسية التى قامت عليها الجماعة هى مقاومة الغزو الحضارى واعادة المجتمع للدين وتعاليم الاسلام التى شعر بناة الجماعة أنها فى خطر يوجب عليها التحرك والعمل المنظم للمقاومة.

 

وعلى مدار عقود طويلة حتى يومنا هذا دارت معارك شهيرة جسّدت معنى الاختلاف الفكرى والقيمى لكلا التيارين وكان من أشهرها معركة كتاب (الإسلام وأصول الحكم) للشيخ على عبدالرازق ومعركة كتاب (الشعر الجاهلى) لطه حسين فى بدايات القرن العشرين وكان من أشهرها المناظرة التى حدثت بين فرج فودة وعدد من الرموز الإسلامية فى التسعينيات وكذلك معركة نصر أبوزيد وما أثارته كتبه من لغط وجدل وصل لساحات القضاء.

 

المتابع تاريخيا لهذه الحالة من المواجهة التى صارت تعرف اليوم بالاستقطاب الإسلامى العلمانى ــ مع تحفظى على مسميات تعريف التيارين ــ يدرك أن الأزمة الحقيقية التى تؤجج هذا الصراع هى رغبة كل اتجاه فى استئصال الاتجاه الآخر وإخراجه من دائرة التأثير المجتمعى، ومما عمق حدة الصراع انتقاله من الإطار الفكرى إلى الإطار السياسى الذى عمق الجراحات بين الطرفين منذ بداية التجربة السياسية المصرية فى أواخر السبعينيات، انتقل صراع الأفكار ليتحول إلى صراع على أصوات الناخبين وبلغت ذروة هذا الصراع عقب ثورة 25 يناير وبدء تجربة ديمقراطية حقيقية وعكست معركة الاستفتاء الدستورى والانتخابات البرلمانية والخلاف على تشكيل الجمعية التأسيسية لوضع الدستور هذا الصراع المحتدم الذى يدور فى أجواء تغيب فيها الثقة التامة بين الطرفين

 

بإخراج الأوزان التنظيمية للتيارين واختلاف القدرات فى عمليات الحشد والتعبئة الجماهيرية والعودة لساحة الأفكار نجد أن كلا التيارين لا يمتلك حتى الآن مشروعا حقيقيا متكاملا لا على المستوى الفكرى ولا المستوى العملى، لقد أُجهد الطرفان فى معارك مستمرة يحاول كل طرف فيها تخوين الآخر ووصمه بكل النقائص وإطلاق الفزاعات عنه مثل فزاعة الدولة العلمانية والدولة الدينية التى لن يكون لأى منهما مكان فى مصر، وباستمرار هذا الصراع مع اغفال المعارك ذات الأولوية ــ خاصة عقب الثورة ــ مثل معركة اخراج المؤسسة العسكرية من الحكم وتحديد علاقتها وتأثيرها على النظام السياسى وكذلك معركة تحرير المجتمع من أزمة الهوية الطائفية والهوية القبلية للانتقال لمرحلة الهوية الوطنية، قادنا هذا الاستقطاب لحالة من حالات الانقسام المجتمعى والتصنيف المغلق لتتكسر الإرادات وتضعف القدرات أمام المعارك الحقيقية التى كان يجب أن يتوحد عليها الجميع.

 

من العجيب أن أنصار المشروعين يرى أنه الأفضل لحكم مصر بينما الاثنان لا يمتلكان تصورا واضحا حقيقيا عن قضايا ذات أولوية مثل تعريف العدالة الاجتماعية وتحديد سبل تحقيقها بشكل عملى وكذلك النظام الاقتصادى الأمثل لمصر ومنظومة علاقاتها الدولية على سبيل المثال لا الحصر، فالجميع يتحدثون فى أطر عامة وبكلام مرسل لا يبنى دولة ولا ينشئ حضارة أو نهضة ومن المثير للشفقة أن الناس قد انتخبت الفريق الأول لأنه قال لهم انتخبونى من أجل تطبيق الشريعة وحماية الدين والفريق الثانى انتخبه الناس لأنه قال لهم أنا ضد هذا الفريق الاول وما يحمله من أفكار.

 

نتفهم ضرورة مراعاة فكرة التدرج المجتمعى فى التحول الديمقراطى والانحياز للبرامج والخطط والسياسات وليس الايديولوجيات ولكن استمرار الاستقطاب على هذا النحو لا يفتح الباب لهذا التدرج والانتقال المأمول لهذا التنافس الايجابى الذى سيعود بالنفع على المواطنين.

 

لذلك لا بد من نقد الذات ومراجعة النفس لكلا التيارين والحوار المباشر لتحديد الأولويات الوطنية وتقرير ترتيب المعارك المشتركة التى لا بد من التوحد فيها وعدم استغلال تناقضات السياسة ومعادلات القوة المتغيرة باستمرار للنيل من التيار الآخر ولو عبر القفز على المصلحة الوطنية العليا لقنص انتصار جزئى ومؤقت على التيار الآخر.

 

الإدراك والتسليم بأن الوطن يسع الجميع وأنه لا يوجد تيار يستطيع يوما استئصال التيار الآخر وضرورة التعاون وتحقيق شراكة وطنية حقيقية هو البداية لإخراج مصر من كبوتها، ويجب أن يعلم الجميع أن الانتصارات السياسية المؤقتة والمتغيرة لا تعطى لطرف الحق فى تهميش الطرف الآخر، ان احتياج الإنسان للمختلف معه احتياج أساسى حتى يتحقق التوازن المطلوب وفى لحظات التحولات فى تاريخ الشعوب تبدو الحاجة لهذا التلاحم ضرورية من أجل ضمان نجاح هذا التحول.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved