ما بعد الاتفاق النووى صورة مجسمة لما ينتظر المشرق العربى

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 29 يوليه 2015 - 7:55 ص بتوقيت القاهرة

تزدحم الأسئلة فى أفق الاتفاق النووى بين إيران والدول (6+1)، وكثير منها عربية، وبينها ما يتصل بالمصالح لكن أخطرها يتصل بالمصير: من باع ومن اشترى، وأين العرب فى هذه الصفقة ذات الأبعاد الكونية؟ أين العراق؟ وأين سوريا بالتحديد؟ يتصل بذلك السؤال عن لبنان. ثم: أين اليمن؟ وأين الخليج العربى الذى لن يكون لاتحاد دوله موقف موحد، برغم الضغوط السعودية؟

وقبل ذلك وبعده: أين السعودية؟ هل ستكتفى بأن يكون نصيبها اليمن، ولهذا مدت الحرب فيها بل ووسعت جبهاتها وعنفت ضرباتها فى أعقاب التوقيع على اتفاق فيينا؟ أم أنها تريد تحديد حصتها فى العراق والأهم فى سوريا خصوصا لحماية نفوذها فى لبنان الذى لكل فيه نصيب وإن ظلت الأنصبة خاضعة لتوازن القوى فى زمن التعديل بالحذف أو بالإضافة مع تبدل الأحوال.

وبالرغم من تزايد التكهنات حول مصير دول المشرق العربى، واحتمال التعديل فى الخرائط، برغم صعوبته، أو التبديل فى الأنظمة وأشخاص الحكام، وهذا أسهل نسبيا، إلا أن تحرك دول أخرى فى الإقليم أبرزها تركيا ومن بعدها إسرائيل، يزيد فى تعقيد الحسابات ويفتح باب الاحتمالات فتتجاوز التوقع.

ذلك أن إيران الثورة الإسلامية قد مدت نفوذها، خلال الثلاثين عاما الماضية، إلى الدول المحيطة بها، عربية وإسلامية فوصلت إلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط عبر سوريا ولبنان بعد تأمينها العراق ولامست حدود الاتحاد الروسى مباشرة أو عبر بعض جمهورياته الإسلامية، كل هذا فضلا عن وجودها المادى المحسوس فى إمارات الخليج جميعا وإن ظل المركز سلطنة عُمان معززة بدبى باحتسابها مرفأ إيران خصوصا وقد تعززت بالقدرات المفتوحة بمدينة جبل على.

***

وإذا ما أخذنا فى الاعتبار أن الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية قلقة أو مقلقة فى معظم بلدان الجوار الإيرانى، لا سيما العربية منها، يصبح منطقيا الافتراض أن محادثات الغرف المغلقة فى فيينا، ثم النتائج المعلنة عبر الظهور المتزامن لكل من الرئيس الأمريكى باراك أوباما والرئيس الإيرانى الشيخ حسن روحانى على الشاشة فى واشنطن وطهران معا قد تجاوزت الاتفاق النووى إلى تقاطعات المصالح فى دول المنطقة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية.

واضح أن تفاهما قد تم الوصول إليه فى ما يعنى العراق، من قبل الاتفاق النووى ثم تعزز بعده... وهو تفاهم يتجاوز التعاون العسكرى إلى مباشرة البحث فى ركائز ثابتة لتقاسم النفوذ «عبر تشطير العراق مذهبيا وعنصريا». فإذا كان «الشيعة» من ضمن الحصة الإيرانية افتراضيا فإن «السنة» من ضمن الحصة الأمريكية، فى حين يتجاور الخصمان اللذان يتقدمان إلى نوع من «المساكنة»، حتى لا نقول التحالف، فى كردستان العراق.

أما سوريا التى كانت «أرض حرب» بين النفوذ الأمريكى معززا أو مجسدا بالسعودية وبين إيران التى تجذر نفوذها فى عاصمة الأمويين فيبدو أن وساطة روسية قد نجحت أخيرا، وفى أعقاب زيارة قام بها ولى ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان إلى موسكو، فى «فتح خط» بين العاصمتين العربيتين المتخاصمتين إلى حد الاشتباك المسلح ولو بالواسطة أو عبر التنظيمات التى تقاتل ضد الجيش السورى بالسلاح والتمويل والتجهيز السعودى (معززا بالقطرى والتركى...).

فى لبنان الذى تبدلت فيه مواقع النفوذ بعد الانسحاب السورى منه ثم بعد تفجر الأوضاع داخل سوريا تقدمت السعودية فى محاولة لاحتلال الموقع الأعظم تأثيرا لكنها اصطدمت بطبيعة نظامها الذى يفضل «شراء الجاهز» بدلا من التعب فى تأسيس علاقات بنفس طويل وعلى مرتكزات صلبة وليس عابرة... وثبت بالدليل الحسى أن سوريا المشغولة بذاتها مؤثرة فى لبنان ولو سلبا، بمعنى أن لها قوى حليفة تستحضر لها دورا ما ولو تمثل بحق الفيتو.

بالمقابل يمكن اعتبار القفزة السعودية المباغتة إلى اليمن بالحرب بذريعة حماية «الشرعية» التى يختلف اليمنيون حول مرتكزاتها السياسية، بمثابة تعويض استباقى، أو توكيد «لحقها» فى تأمين «بوابتها الخلفية»، لموازنة النفوذ الإيرانى فى المدى العربى، خصوصا وأن السيطرة على اليمن تؤمن لها مرفأ عدن ووجودا ما فى باب المندب، وتحقق طموحها إلى التمدد فى اتجاه حضرموت التى طالما تطلعت إليها كمعبر إلى المحيط الهندى.

أين تركيا من هذا كله؟!

لعل إقدام تركيا على إطلاق حملتها العسكرية قبل أيام ضد «المتمردين الأكراد» بذريعة تفجير تم فى قلب قرية تركية تقع على الحدود السورية، يمثل الخطوة الأولى – على الأرض السورية – التى تعلن فيها حكومة أردوغان أنها طرف معنى بما سوف يتقرر فى شأن العراق وأساسا سوريا، خصوصا مع اضطراب الأوضاع فيهما وعجز الدولة المركزية فى دمشق عن حسم الصراع المسلح ضد معارضاتها التى تجاوز عدد تشكيلاتها الخمسين، بحيث بات لكل دولة قادرة نصيب فيها – بالمال أساسا ومن ثم بالسلاح ــ أما الرجال فأمرهم هين.

***

إن الأوضاع السياسة قلقة فى مجمل دول الشرق العربى، وهى «قيد النظر»، وربما كان الاتفاق النووى المدخل لإعادة تقاسم النفوذ فى هذه الأقطار فى ضوء الأمر الواقع... خصوصا وقد تحركت إسرائيل فأعادت ترسيم بعض «حدودها» مع سوريا بما يناسب «أمنها» ثم انها طورت علاقاتها (العسكرية) مع الأردن بصورة علنية، فباعت هذه المملكة التى استولدها المشروع الإسرائيلى من قبل إقامته على أرض فلسطين، عددا من الحوامات الحربية، توطيدا للأمن الإسرائيلى والدخول فى ترتيبات المستقبل التى تُعد للمنطقة.

وفى حين تتبدى الدول العربية فى موقع الغنيمة يتبارى أهل النفوذ قديمه والمستحدث فى السباق إلى تقاسمها، تنصرف الدول الغربية إلى التنافس على الكنز المقفل فى إيران، بتقديم العروض المغرية التى تشمل مختلف جوانب الحياة بأسباب التقدم التى كانت ممنوعة على إيران تحت الحصار، وآن أوان استثمارها... وهكذا قفزت ألمانيا، التى يشدها إلى إيران شىء من العرق إضافة إلى المصالح، لتكون الأولى والأعظم استعدادا لتقديم ما حرمت منه بلاد فارس طوال سنوات الحصار وآن الأوان لكى تحصل عليه فيؤكد جدارتها بمرتبة الدولة الأقوى فى الإقليم، مع تحاشى استفزاز تركيا، وتغليب صيغة التوازن «على التصادم» فى إعادة رسم خريطة تقاسم النفوذ فى المشرق العربى الذى يبدو معطل القرار، يكاد يستسلم لقدره كغنيمة للأقوياء.

ومؤكد أن غياب مصر وانشغالها بأوضاعها الداخلية، اقتصاديا بالأساس ثم أمنيا مع اندفاع العصابات الإرهابية المعززة بالشعار الإسلامى لمشاغلة النظام الجديد ومنعه من تركيز اهتمامه بموجبات النهوض، يعطى مساحة أوسع للدول الإقليمية الكبرى (إيران وتركيا أساسا) للتدخل فى شؤون المشرق العربى وتقاسمه كمناطق نفوذ بمساحته الواسعة بدءا من باب المندب عند «بحر الظلمات» أو المحيط الإطلسى وصولا إلى بيروت على البحر الأبيض المتوسط.

على أن مشروع التقاسم هذا يفترض التصدى المشترك لأشتات التنظيمات المسلحة، وأخطرها داعش المعزز مع السلاح وبعده بشعار الخلافة الإسلامية، والذى استطاع أن يخترق الحدود المتروكة للريح والمجتمعات المتصادمة بالسلاح مع أنظمة الحكم فيها.

ومن طرائف هذا الوضع أن تصبح الجمهورية الإسلامية الإيرانية والجمهورية التركية التى يحكمها، حتى إشعار آخر، الإخوان المسلمون، جبهة واحدة فى مواجهة التنظيمات الإسلامية التى انضوى فى صفوفها أشتات المسلمين الهاربين من يأسهم من بلدانهم وفيها إلى وهم الخلاص عبر دولة الخلافة وجيشها المزود بأحدث أنواع السلاح، ولا سيما بعد غنائمه الممتازة التى جناها من ثكنات الموصل ومواقع عسكرية أخرى فى العراق، وأقل منها فى سوريا، ثم من خزائن مؤسسات حكومية عراقية وسورية قبل الحديث عن «الضرائب» التى فرضها على من اضطر إلى البقاء فى «دولته» العتيدة وتحت سلطانه.

***

إن العرب عموما، وعرب المشرق خصوصا، فى حال من التيه يخوضون فى دمائهم ويعيشون حالة من الانقسام الذى أخذهم إلى الاقتتال الأهلى وقد يدفعهم إلى المزيد منه، طالما افتقدوا وحدتهم الداخلية فى كل قطر من أقطارهم، فضلا عن تباعد دولهم إلى حد الخصومة والاحتراب.

إلا إذا حصلت سلسلة من المعجزات التى طالما عاش العرب ينتظرون أن يتدخل الغيب لإحداثها فيعودون إلى وعيهم والى إمساك مصيرهم بأيديهم.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved