العروبة هى الحل.. فماذا عن البرنامج؟

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 29 سبتمبر 2010 - 9:59 ص بتوقيت القاهرة

 عقد فى بيروت، الأسبوع الماضى، لقاء تشاورى عنوانه فلسطينى ولكن موضوعه الفعلى يتصل بواقع التيه العربى الذى يهدد بضياع الهوية فضلًا عن الأرض، وضياع المستقبل فى غياهب الصراع على الحاضر.

كان بين المشاركين مفكرون لهم إسهامهم المؤثر فى حركة التنوير التى تحاول إبقاء بعض المشاعل مضيئة على الطريق الصعب إلى غد تشحب ملامحه مع تعاظم الصراع فى قلب الأمس وبشعاراته المتهافتة.

كما جاء حشد من أهل الماضى وقد عاشوا شبابهم فى قلبه، ممتلئين بالحماسة والاستعداد للتضحية، ثم فوجئوا بانطواء صفحته عليهم، ولم يدركوا انه قد غادرهم بلا عودة وتركهم يرددون خطابهم العتيق بينما عالم اليوم مختلف عما عرفوه فألفوه بحيث يكاد يكون نقيضه تماما، فى الواقع السياسى كما فى القيم والأفكار وأسباب الحياة.

وأطلت عبر هذا المؤتمر، ذى الشعارات الطامحة إلى التغيير، التناقضات التى يحفل بها واقع المعارضات العربية التى حولها ضعفها البنيوى إلى أدوات تجميل يمكنها أن تخفف من بشاعة النظام العربى القائم موفرة له، من حيث تقصد أو لا تقصد، تزكية بمجرد وجودها وقدرتها على رفع الصوت ولو ضمن قاعات مقفلة أو فى مطبوعات مهددة دائما بالتوقف، إما لضعف الإمكانات المادية أو لتفاقم الإشكالات والتعقيدات الإدارية مشفوعة بالتهديدات الأمنية إذا ما هى حاولت تجاوز «السقف» أو خرقه بوهم الاستقواء بالشارع.

لمعظم المشاركين تاريخ فى النضال.. أى فى الماضى، بينهم من كان قياديا فى تنظيم قومى عربى أو يسارى أممى، ولأنه يعتز بماضيه فانه لا يستطيع حتى لو أراد التقدم إلى العصر، لأنه يستشعر غربة عنه.

وبينهم من يرى فى الماضى مصادر للأمل أكثر مما يتضمن الحاضر.. ففى الأمس كان أطراف الصراع محددين تماما من حيث المبدأ: فى جهة حقوق الشعوب وطموحاتها وآمالها وجهدها للتقدم نحو غدها الأفضل، وفى الجهة الأخرى «الأعداء» فى جبهة واحدة: «النظام» ومن خلفه قوى الاستعمار القديم التى بات لها اسمها الجديد «الهيمنة الأمريكية» الذى يجمع الامبريالية الأمريكية إلى المشروع الصهيونى الذى يتقدم الآن نحو أكمل تجلياته: إسرائيل دولة يهود العالم.

بين المشاركين أيضا نواة لطليعة ثقافية عربية تطمح إلى إعادة صياغة مشروع العروبة بما يتناسب مع المتغيرات فى الواقع، سياسيا وثقافيا واقتصاديا واجتماعيا على الأرض، وبحيث تكون العروبة الطريق إلى المستقبل.

ثم إن موعد انعقاد المؤتمر قد جاء فى سياق طوفان الذكريات السوداء لشهر (سبتمبر) عربيا بالأساس وفلسطينيا بالتبعية: من ذكرى تدمير حلم الوحدة، الجمهورية العربية المتحدة فى 28 سبتمبر 1961، إلى الحرب على المقاومة الفلسطينية فى الأردن (سبتمبر 1970) وطردها منه، إلى وفاة جمال عبدالناصر عشية نجاحه فى وقف المذبحة ( 28 سبتمبر 1970)، فإلى طرد المقاومة الفلسطينية من لبنان وتنظيم مذابح صبرا وشاتيلا ( 15 16 سبتمبر 1982)، وصولا إلى اتفاق أوسلو الذى أنهى المقاومة الفلسطينية (13 سبتمبر 1993) وادخلها معتقل «السلطة» داخل سجن الاحتلال الإسرائيلى لفلسطين جميعا..

«العروبة» قاسم مشترك بين المؤتمرين، ولكن بمفاهيم عدة، وان ظل أكثرها جذرية وطموحا إلى التجديد بالانتماء إلى العصر هو الذى صاغته تجربة عزمى بشارة المختلفة تمام الاختلاف عن تجارب سائر المشاركين وفى بيئة معادية بالمطلق، وعبر التصادم مع المشروع الإسرائيلى المعادى والمثقل بنجاحاته التى تعكس حجم الفشل الذى أنجزه النظام العربى فى العقود الأربعة الأخيرة وتحديدا بعد اغتيال نتائج حرب أكتوبر البطولية بمعاهدات الصلح اللاغية لمن وقعها من الدول العربية.

لم يكن لدى عزمى بشارة وهو من الداخل، وفيه من الأسلحة بعد إيمانه بأرضه وبحقه فيها، إلا فهمه العميق لمجتمع «عدوه» الإسرائيلى، الذى فرض عليه بقهر احتلاله أن يكون من «رعاياه» العرب وليس من مواطنى دولة يهود العالم، وإن كان سمح له أن ينشئ مع رفاق له «تجمعا» فى الكنيست الإسرائيلى، ثم أن يرأس كتلة نيابية معدودة ومحاصرة دائما بهويتها فى مجتمع نابذ لهوية أهل البلاد الأصليين.

مع الوعى بطبيعة العدو، وهو وعى يرتكز إلى ثقافة عميقة وفهم لطبيعة الكيان الإسرائيلى وللحركة الصهيونية من قبل، استند عزمى بشارة إلى إيمانه بهويته، أى بعروبته، وبأهليتها لان تكون أساسا صلبا للتقدم والتحرر، بالاستناد إلى جدارة الشعب العربى وكفاءته فى المواجهة، إذا ما تيسر له أن يتقدم إليها مستندا إلى حقه فى أرضه، وحقه فى غده، والى معرفة حقيقية بعدوه والقوى المساندة له. فهذا المواطن ممنوع من أن يعرف ذاته فى بلاده، ومفروض عليه الجهل بعدوه.. فكيف له إذن أن يربح حربا بمثل الشراسة التى يجسدها العدو الإسرائيلى والذى يعرف كل شىء عن أعدائه العرب.

من خلال المؤتمر، وعبر الخطب أو المناقشات، تبدى وكأن المعارضات العربية تحمل فى داخلها الكثير من أمراض أهل النظام العربى.. فبين المعارضين من كانوا أهل سلطة سابقا، ولو بنسبة رمزية، وبينهم من هو طامح لان يكون سلطة بديلة من دون ان يتورط فى تقديم برنامج بديل.

والأمراض التكوينية التى تحملها المعارضات العربية متعددة وكلها خطير، لكن أخطرها افتقارها إلى مفهوم موحد للعروبة، يتجاوز ذلك الموروث عن مرحلة ماضية فات زمانها خصوصا أن تجسيداتها السياسية قد ارتبطت بشخصية قيادية استثنائية مثل جمال عبدالناصر.

فى ذلك الزمان أغنى «القائد» عن «القيادة»، وأغنت الفكرة المجسدة للأحلام والأمانى عن البرنامج السياسى بقاعدته الفكرية المعبرة عن احتياجات المجتمع التى تجسدها طموحاته إلى الحرية والوحدة والتقدم والعدل.. ثم ان كان ذهب ذلك كله مع ذهاب «البطل» الذى فشل فى حماية أحلامه من نظامه.

وكلنا نعيش، بعد، فى تداعيات ما بعد غياب «القائد» وافتقاد القيادة المؤهلة لصياغة مثل ذلك البرنامج، فضلا عن الكفاءة فى حمله والتقدم به على طريق الإنجاز.

ثم إن إسرائيل كانت دولة معادية «خارجنا». أما الآن فإنها تكاد تكون الدولة الوحيدة فى منطقتنا، ثم إنها قد اقتحمتنا فغدت داخلنا، وبالتالى صار التقدم لمواجهتها وكأنه تورط فى حرب أهلية.

لقد اخرج النظام العربى العرب من الحرب بينما إسرائيل تحتل العديد من العواصم العربية بلا قتال، وتمترس فى قلب مركز القرار فيها.

من ينكر أن إسرائيل تتحكم الآن بأى قرار عربى مؤثر، ليس فى مجال الحرب والسلم فحسب، بل أساسا وقبل ذلك فى مختلف جوانب الحياة السياسية العربية والاقتصاد، والاجتماع وصولا إلى التربية وبرامج التعليم؟

لقد استسلم النظام العربى تماما، وانتقل من موقع العدو إلى موقع التابع، وكثيرا ما استمعنا إلى ما سوف تقرره هذه العاصمة أو تلك فى شئون داخلية وسياسية وتربوية، من مصادر إسرائيلية وقبل أن تعلن رسميا من طرف أصحاب الشأن.

انظر حولك من أقصى المغرب إلى أدنى المشرق وحاول أن تسمى دولة عربية واحدة مستقلة ومؤهلة لتلبية متطلبات شعبها أو مواجهة تحديات يومها وغدها!

بالمقابل، فمن البديهى القول ان الإسلام السياسى لم ينجح أبدا فى تقديم نفسه كبديل قادر ومؤهل على إحراز النصر، وأساء فى برنامجه للوحدة الداخلية والتقدم الاجتماعى أو فى بناء الدولة الوعد، فضلاً عن مواجهة العدو.. ولعل هذا الفشل قد مكن النظام العربى من خلال تهديد شعبه بشبح هذا البديل المحتمل الخطير الى حد تدمير الذات.

تبقى العروبة هى الحل.. ولكن من هو المؤهل على إعادة صياغة البرنامج الفكرى السياسى للعروبة بحيث يفتح الطريق الى الغد أمام هذه الجماهير المحبطة والتى تتعرض لحفلة غسل دماغ مستمرة وتيئيس من الذات تحت شعارات من نوع: إسرائيل هى أمريكا، وأمريكا أقوى من ان تقاوم، فالسلام بيدها كما قرار الحرب، والاقتصاد بيدها كما التقدم العلمى، ومجنون من يحاول مواجهتها لأنها تملك وسائل القوة جميعا، فى السياسة كما فى الاقتصاد، وفى العلم كما فى السلاح، وفى الأرض كما فى الفضاء.. وليس أمامنا الا الخضوع لها لعلها تعيننا على الوصول الى «السلام» وبأى شرط.

ليست العروبة هى الحرب، ولكن سياسات النظام العربى المجافى للعروبة والخاضع لإذلال العدو الإسرائيلى ليست هى السلام بأى حال.

وتدل تجارب أهل النظام العربى ان «الوطنيات المحلية» او الإقليمية التى اعتمدوها لم توفر الحلول لمشكلات مجتمعهم، يستوى فى ذلك الاقتصاد او التعليم فضلا عن قوة الردع والقدرة على التقدم.

كما تدل تلك التجارب على ان الخروج على العروبة، بما هى جامع مشترك للمصالح قبل العواطف، ولأسباب القوة المؤهلة لصياغة مستقبل يليق بكرامة الإنسان، لم يؤد بأهل النظام العربى إلا إلى خيار محدد: الاستسلام لأمريكا عبر إسرائيل او لإسرائيل عبر أمريكا.

العروبة هى الحل.. ولكن من ينتج ذلك البرنامج المؤهل لفتح أبواب المستقبل أمام هذه الأمة التائهة عن ذاتها والمضيعة منها حاضرها ومستقبلها؟!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved