الشعب يريد الأقنعة

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 29 أكتوبر 2014 - 8:05 ص بتوقيت القاهرة

سمعت أصدقاء لى ينصحون أولادهم بعدم مشاهدة الشاشة خوفا عليهم من الفتنة. يقصدون فتنة الكذب. يسمعون من المتحدث كلاما عكس كلام قاله على الشاشة نفسها فى الليلة السابقة، أو كلاما لا يدخل عقلا ولكنه يصر ويؤكد متعاليا كما لو كان يريد الإمعان فى إهانة المشاهد. كثير من المتحدثين على الشاشة أدمنوا التعميم والبعد عن التفاصيل، وأكثر هؤلاء يستخدم الصوت العالى، وبعضهم يستخدم عند اللزوم نبرات حزينة ويذرف الدموع ويتعمد تغيير معالم الوجه مع كل تغيير فى نبرة الصوت.

•••

ذكرنى أحد هؤلاء الأصدقاء المشاركين فى النقاش بدراسات شهيرة أنجزها على امتداد أربعين عاما الأستاذ إيكمان من جامعة كاليفورنيا بسان فرانسيسكو. تخصص الأستاذ الشهير فى موضوع الكذب واشتهر فى المجتمع الأكاديمى ومن بعده المجتمع الأمنى حين وضع كتيبات تساعدك فى كشف الكذب عن طريق مراقبة وجه المتحدث أو الشخص الواقف أمامك. أعرف الآن أن هذه الكتيبات لا يستغنى عنها حراس أمن المطارات الأمريكية وكذلك موظفو الجمارك. لذلك يحرمون هناك، كما فى أماكن أخرى، تغطية الوجه أو استخدام الأقنعة عند دخول المطارات.

•••

جلسنا نناقش ظاهرة الكذب، وبخاصة الكذب على الشاشات المصرية والعربية عموما. بطبيعة الحال انتقل النقاش إلى براعة بعض المتحدثين الذين اكتسبوا موهبة التحدث لساعات أو دقائق بكلام غير مفهوم أو بكلام متكرر ومعاد بصيغ مختلفة، وإلى براعة متحدثين آخرين فى الكذب على المشاهد. سمعنا أحد هؤلاء المتحدثين بانتظام يقسم أنه قرأ بعينيه تفاصيل الوثيقة التى تؤكد المؤامرة، ولكنه يرفض بعناد وبوطنية متدفقة أن يعرض الوثيقة على الشاشة أو يشير إلى مصدرها أو يقدم دليلا واحدا على وجودها. يرفض ولا تكشف ملامح وجهه عن رغبة أو نية فى الكذب. هو أو هى يعلمان أنهما بهذا السلوك ينشران الفتنة ويقدمان للمشاهدين نموذجا للخداع والغش. قدوة لعينة ونذير سوء لمستقبل نحاول حكومة وشعبا صياغته على أسس راقية ومتحضرة وأخلاقية.

•••

انتبهنا خلال النقاش إلى حقيقة لم يكن أغلبنا على علم بها، أو على الأقل لم تخطر على بالنا من قبل. لم نكن نعلم أن جميع أمم العالم مارست صنع «الأقنعة» وارتداءها، جميع الأمم باستثناء شعوب الشرق الأوسط. بعض هذه الشعوب، كالفراعنة واليهود، ربما صنعت الأقنعة وجربتها فى عصورها القديمة وتخلت عنها مبكرا. اشتهر الفراعنة بفن الأقنعة وبتقنيات صنعها واستخدامها، مثلهم مثل كل الثقافات التى احترمت طقوسا معقدة للموت وللبعث بعد الموت. كان المصريون يضعون أقنعة على وجوه موتاهم، أملا فى أن تقوم هذه الأقنعة بتوجيه الروح عند نزولها فى الحياة الأخرى، أى نحو المكان فى الجسد الذى ستدخل منه. ولا شك فى أنه كان لقناع توت عنخ آمون الفضل الأعظم فى الاهتمام العالمى بدور القناع فى الثقافات القديمة، وفى مقدمها ثقافة المصريين فى العصر الفرعونى.

وجدنا هذه العادة مطبقة فى مقابر الهنود الحمر فى بدايات التاريخ الإنسانى، وفى حفريات الأناضول عن مرحلة ما قبل ثمانية ألف عام. وكانت البداية، كما هو متوقع، مرتبطة بالعلاقة بين الإنسان والآلهة التى يختار أن يعبدها. وقد لوحظ بالفعل أن ظاهرة استخدام القناع انتشرت حيثما احتاج الفرد إلى وسيط يعتقد أن الآلهة لن تعترض على «شكله» إذا اقترب منها ليتحدث إليها. أو احتاج إلى وسيط يساعده فى استرضاء قوة خفية تدفع عنه وعن آلهته الشر. لذلك أبدع وهو البدائى البسيط فى صنع أقنعة تمثل رءوس وحوش مفترسة وضعها على مداخل معابده الهندوسية فى الهند، ومن هذه المعابد انتشرت فى كل جنوب آسيا واندونيسيا.

وفى الصين ظهرت الأقنعة فى عصور بالغة القدم ولأسباب أيضا دينية. وفى ثقافات عديدة، ومنها الثقافة الفرعونية، كانوا يصممون القناع أحيانا على شاكلة جد من الجدود أو كبير من كبراء العائلة تأكيدا لمكانة المتوفى وأصالة نسبه. لذلك قيل أن صانع الأقنعة فى العصور الوسطى الأوروبية كان دارسا جيدا للتاريخ والسحر والدين وعادة ما كان يتوارثها جيلا بعد جيل.

•••

الدين، على أهميته، لم يكن العنصر الوحيد الذى ساهم فى انتشار ظاهرة الأقنعة. فالإنسان الذى أراد أن يخفى وجهه عن بصر الآلهة عندما يكذب أو يخدع أو يغضب، أراد أيضا إخفاء هذا الوجه عن أبناء جلدته من البشر. ولكنه وجد فى القناع مصدرا للحماية إذا خرج للصيد أو للحرب. وتشير حفائر فى كوريا إلى أن الكوريين القدامى كانوا يصنعون القناع للفارس ومعه قناع لحصانه. وقد استخدم الأوروبيون هذه الأقنعة الواقية فى جميع مراحل حروبهم القديمة.

كان المسرح العنصر الثالث فى انتشار وشعبية ظاهرة القناع. عرفته أغلب ثقافات العالم منذ القدم، ربما باستثناء شعوب الشرق الأوسط بعد ظهور الأديان السماوية. ولعل فى هذا الاستثناء ما يبرر إلى جانب مبررات أخرى عدم انتعاش ظاهرة القناع فى الثقافة شرق الأوسطية. إذ بينما ازدهرت صناعة وفنون القناع واستخدامه فى أيام الإغريق والرومان لم تحظ باهتمام مماثل فى ثقافات الشرق الأوسط التى لم يكن المسرح مكونا رئيسا فيها.

كذلك جرى استخدام القناع لأغراض طبية، وكان فى مقدمة من استخدموه الفراعنة والهنود الحمر لعلاج الوجوه التى تعانى من تشوهات جلدية، واستخدمها الأوروبيون فى الحروب الصليبية. وتستخدم الآن على نطاق واسع للحماية من الغازات السامة والانبعاثات الكربونية. نعرف أيضا أن للترفيه دورا كبيرا فى انتشار الظاهرة، فقد استخدمت شعوب عديدة الأقنعة لأغراض المرح والفرح وأقيمت من أجلها المهرجانات السنوية وأبدع الفنانون فى رسم وصناعة أقنعة تدخل البهجة إلى النفوس. ولكننا نعرف فى الوقت نفسه أن وراء بعض هذه المهرجانات، وبخاصة مهرجان البندقية الشهير، وكانت بدايته فى القرن الثالث عشر، رغبة غير معلنة فى أن يكون يوم المهرجان يوم «المساواة والعدالة» بين جميع أفراد المجتمع. لا فرق بين فقير وغنى، أو بين كبير وصغير أو بين فاتنة وغير فاتنة. وكان عرفا من أعراف مدينة البندقية وطقوسها ألا يجبر أحد على نزع قناعه فى هذا المهرجان أو غيره من مناسبات ارتداء الأقنعة.

•••

كشف النقاش فى دائرتنا البحثية الصغيرة عن أن خلافا عويصا حول أصل كلمة Mask لم يحسم تاريخيا أو اكاديميا. ما زال الخلاف قائما ومتعدد الأبعاد. فيما يخصنا مازال الخلاف دائرا حول ما إذا كان أصل كلمة Mask هو كلمة Mascara، وهى مشتقة حسب رأى غالبية المؤرخين من كلمة «مسخرة» العربية، أو مشتقة من عبارة بالإسبانية Mas de la cara، ومعناها «أكثر من الوجه»، تطورت لدى العامة لتصبح Mascara. الأغلبية تميل إلى الاشتقاق من العربية، وإن كانت العربية هنا أيضا مشتقة من اللاتينية، ودليلهم أن القناع فى ذلك الحين كان يستخدم لإهانة الأعداء والتقليل من شأن المنافسين، وأنه كان أداة للسخرية من الذات ومن الآخر.

•••

أحاديث الشاشة استدرجتنا إلى حديث الأقنعة، ثم إلى أحاديث متفرعة عن حديث الاقنعة، مثل الأمل المتجدد دائما لدى مشاهدين عديدين فى أن تتحلى الشاشة المصرية، والعربية عموما، بالصدق، وإلا فلتجبر متحدثيها على وضع الأقنعة علهم ينطقون بكلمة صدق.

بالأقنعة قد تعفينا الشاشات من سماع الكذب ومشاهدة النفاق، أو تحل لدى بعض المتحدثين عقدة الخوف، وتحمينا جميعا من شرور الفتنة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved