أنا الشرق
محمود قاسم
آخر تحديث:
الجمعة 29 نوفمبر 2019 - 10:05 م
بتوقيت القاهرة
لا تزال فى جعبة السينما الضائعة الكثير من الأفلام التى نكتشفها بين وقت وآخر لنراها وتدخل إلى خريطة السينما المصرية التى لا نعرفها.
ينطبق هذا على فيلم «أنا الشرق» صاحب التجربة أنه الفيلم الوحيد الذى أسندت بطولته لملكة جمال فرنسا كلود جودار، لكن المعضلة الكبرى أن تواريخ عرض الفيلم متضاربة؛ حيث هناك إشارات إلى أن عرض الفيلم عام 1959؛ وقد أبلغنى جميل راتب أنه مثل الفيلم قبل هذا التاريخ بفترة طويلة، وتشير الموسوعة الالكترونية أنه من إنتاج 1956.
الحياة تجدد نفسها، ووسط قسوة رحيل الأصدقاء المقربين فإننى أرسل كل التحية إلى السينما وعالمها التى اكتسبت من خلالها أعز الاصدقاء، كما أنها جمعتنى فى الحب مع شقيقى الأصغرمصطفى، وهذا الاسبوع اكتسبت صديقا جديدا تسابقنا لساعات فى الحديث عن حبنا الكبير للسينما، إنه الدكتور عمرو الجنيدى المقيم بين مصر وكندا، وفى آخر النهار أرسل لى فيلما نزل على اليوتيوب حديثا. إنه الفيلم المصرى البالغ الغموض «أنا الشرق»، أقول غامضا لعدة أسباب: منها أنه الفيلم المصرى الوحيد الذى قام بيطولته الممثل جميل راتب فى دور طارق ابن الصحراء، وهناك عدة تداخلات حول الفيلم، فهو الممول الوحيد الذى أخرجه مدير إنتاج لايعرف أحد أين ذهب بعد إخراج هذا الفيلم، ولا لماذا لم يخرج فيلما آخر، ولماذا جاء الفيلم بهذا الشكل فكاتب السيناربو الدكتورمحمد سليمان، هو أيضا المنتج ومؤلف إحدى الاغنيات، ولم نسمع عنه من قبل أو بعد، اما المخرج فهو منتج مساعد سابقا لم نسمع به فى أى فيلم آخر، إنه عبدالحميد زكى، الذى لم يتدخل قط فى الانتاج هنا، المرجح، إن الفيلم تم إنتاجه فى العام نفسه الذى ظهر فيه جميل راتب للمرة الأولى فى السينما العالمية فى «ترابيز» بطولة تونى كيرتس وبيرت لانكستر، وجينا لولو برجيدا، ورغم أن البطولة الأولى هنا لجميل راتب الذى كان نجما فى المسرح الفرنسى اما البطولة الحقيقية فكانت لتوفيق الدقن بناء على ظهوره، فهو يزيد زعيم القبيلة الذى ينتظر مكانة أعلى ويتفق مع الشركات الأجنبية للتواجد فى بلده، ويسوقون إليه امرأة من جنسهم لينفذ لهم التعليمات.
يبدو أنه كانت هناك خطة ما لتقديم هذا النوع من الأفلام فى تلك السنوات، فنحن أمام فيلم صحراوى فى المقام الأول، رغم أن الفيلم تم تصويره فى استوديو النيل، رغم بعض العامية المصرية فإن الدكتور محمد سليمان جعل الفيلم كأنه تم تصويره فى صحراء توحى اننا فى المغرب العربى، خاصة تونس مثلما حدث فى فيلم «جحا» بطولة عمر الشريف، ولعلنا يجب ملاحظة أن فيلم شيطان الصحراء الذى أخرجه يوسف شاهين لعمر الشريف كان يدور أيضا فى أماكن مشابهة، وهناك أيضا الأجواء نفسها فى فيلم «غرام فى الصحراء» بطولة سامية جمال والأمريكى ريكاردو مونتلبان فى فترة لاحقة.
فيلم «أنا الشرق» بالغ الوضوح فى موضوعه، فهو باختصار حول السنوات الأولى لزحف الاستعمار الأوروبى لاستغلال ثروات المنطقة، والمقصود هتا بالذهب وليس البترول، وهنا رأينا عالم الصحراء المعاصرة، خاصة الواحات الخضراء، حيث يعيش أهل البدو على بكارتهم وعاداتهم، وكيف جاء مندوب الاستعمار من أجل اكتشاف المعادن النفيسة، ويتم الأمر بشكل سلمى، مع استخدام الاغراءات المالية، والنساء الاوروبيات لاغراء زعيم القبيلة بالنساء.
الفيلم قام بتجريد المكان من اسمه كى ينطبق الحدث على أى بقعة صحراوية، وفى البداية نعرف أن الشيخ فاضل الذى يجسده حسين رياض صار سيد القبيلة وعليه فإن الشيخ يزيد صار ينتظر دوره فى تولى القيادة، والذى سوف يسعى بعد ذلك كى يكون الزعيم المنتظر.
فى البداية دخل الاستعمار إلى الواحة فرادى عندما أحسوا أن الأرض مليئة بالذهب، فسعوا إلى الحضورالواحد تلو الآخر، قاموا بمصادقة يزيد الزعيم المنتظر وقاموا بدفعه لزيارة مقر الشركة فى اوروبا، أى أن الاستعمار بدأ بالطرق السلمية من خلال الشئون العلمية البحثية، ثم جاء دور المؤامرات والحروب لاحتلال الأرض، وتم استخدام المال والجنس لإغراء الزعيم المنتظر وصور الفيلم كيف انبهر الصحراوى عندما ارتدى الزى الأوروبى، وحذر المشاهد من الوقوع بين اغراءات الاجانب والحصول على أموال مدسوسة.
وقد استخدم الفيلم عدة محاور فى التعرف على نوع الصراع أولها الدين، وقد بدأ الفيلم بالعزف على مكانة الدين فى حياة الناس سواء قبل حضور الشركات الاجنبية، أو يعد المقاومة، وحذر الفيلم أن الاحتكاك بالأجانب سوف يدفع شباب القبيلة لتناول الخمر، والجنس الحرام، وحذر الفيلم أيضا أن إغراءات الأغراب سوف تجعل أبناء القرية يتجهون للعمل مع قوانين العمل الجديدة، كما استخدم سلاح العلم، أن التطور والمعجزات الحديثة لم تتواجد الا بالعلم، وفى النهاية تمت المقاومة والتصدى للاستعمار من خلال المساجد، لكن الغريب أن الزعيم المنتظر يزيد لن يشارك فى خيانة مجتمعه، بعد أن اكتشف نوايا أصحاب الشركة.
ليست لدينا معلومات مؤكدة عن سبب إسناد البطولة إلى جميل راتب، لكن المؤكد أنه كان يبحث عن فرص سينمائية، ولم يفلح فيها حتى تمت الاستعانة به فى فيلم «الكذاب» عام 1975، وكان اهتمامه كله بالمسرح، والغريب أيضا أن الحوار الغالب فى الفيلم كان باللغة العربية، حتى دور زازا الفرنسية الجسية. بالإضافة إلى عامية مصرية، ويتكلم بهذه اللغة فى الفيلم العلماء الاجانب الذين لا يفصحون عن جنسياتهم، وقد أسند دور رئيس البعثة إلى سعد أردش الذى تخرج فى الجامعات الفنية الايطالية، أما بقية الممثلين فقد غلب الأداء المسرحى المباشر جدا عليهم، ومنهم جورج أبيض، وعبدالعليم خطاب
ترى لماذا لم يتذكر الناس الفيلم، ولا لماذا تأخر موعد عرضه، أغلب الظن أنه فيلم خطابى أشبه بحصص التربية الوطنية، ويبدو ذلك فى الخطبة المنبرية العصماء التى تلقيها شخصية اسمها «أنا الشرق»، يؤمن بكل من الانبياء موسى وعيسى ومحمد، ويلقن المستعمر درسا طويلا كله تحذيرات: اياكم الاقتراب من الشرق، ويبقى السؤال: ابن كان الفيلم طوال تلك السنوات؟