بناء الديمقراطية فى مصر: شرعيات سياسية وثقافية متعددة

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: الإثنين 30 يناير 2012 - 9:15 ص بتوقيت القاهرة

لا حتمية فى الديمقراطية، ولا تأكد مسبقا من نتائج تفاعل القوى السياسية والاجتماعية الحية فى المجتمعات. الشك فى هذه النتائج، والتغير فيها، سمتان لصيقتان بالديمقراطية، إذا انتفتا سقطت عن النظام السياسى صفة الديمقراطية. حتى ديسمبر 2010 لم يكن ثمة شك فى أن الحزب الوطنى الديمقراطى سيفوز فى كل انتخابات تجرى، ولم يقترب منه ولو من بعيد «شبح» الخروج من السلطة لأكثر من ثلاثين عاما. لذلك لم يكن النظام السياسى ديمقراطيا. سقط شهداء كثيرون نحيى ذكراهم، ونعتبرهم أبطالا دفعوا عنا ثمن كرامتنا، ولكن فى نهاية الأمر لم «يأخذ» النظام من الشعب إلا ثمانية عشر يوما ليسقط رأسه.

 

بعد هذا النصر السريع تعرضت الثورة المصرية لمناورات، وصعاب، وعقبات، ومراوغات، أضاعت وقتا وخسرت الثورة من جرائها، ولكنها لم تخسر تماما ولا ضاع الوقت المنقضى فى العام الفائت ضياعا خالصا. احتفاء الشعب بقوته، وبابتكار شبابه وعزمهم، وبذكرى شهدائه، بعد عام على انطلاق ثورته، خير دليل على ما امتلأت به الكأس، على ما كسبته الجماهير الثائرة، وعلى ما أثمرته عليها الأشهر الاثنى عشر الماضية.

 

●●●

 

فى ميدان التحرير، فى القاهرة، وفى ميادين تحرير مدن مصرية عديدة، احتشد الملايين بشكل مبهر، كما لم يحتشدوا فى يوم واحد حتى فى أسابيع انطلاق الثورة الثلاثة. تظاهر يوم الأربعاء الخامس والعشرين من يناير الشباب الذين أشعلوا جذوة الثورة، بمختلف تياراتهم، وتظاهر الإخوان المسلمون، والتيارات السلفية، والليبراليون، واليسار بجميع أطيافه، وبمن لا ينتمون إلى أى من هذه الفرق السياسية. عج الميدان بالملتحين، ذوى اللحى مختلفة الأطوال، والأشكال، والتهذيب، وبحليقى الذقون. امتلأ الميدان بالنساء والفتيات المحجبات، ذات الأحجبة القاتمة والملونة، الصارمة والمتهاونة، وبالمنتقبات، وبالسافرات سفورا مبرما. تفاوتت جودة الملابس ونوعياتها كاشفة عن الطبقات والفئات الاجتماعية الموجودة فى الواقع المصرى. افترش البعض الأرض ليصلى، ولم يسأل أحد إن كان من عداهم سيصلون قضاء عند عودتهم الى منازلهم أم لن يصلون. لم يبد ثمة اهتمام بما إذا كانت هذه المجموعة أو تلك من المتظاهرين من المواطنين المسلمين أو من المواطنين الأقباط. بخلاف استثناءات نادرة يبدو أنها كانت موجودة، وإن لم يشهد كاتب هذا المقال أيا منها، كان التعاضد بين كل الموجودين تلقائيا وودودا. ربما لم يتحدث الجميع مع الجميع، ولكنهم تجاوروا، ولم يتبرموا من بعضهم البعض، واشتركوا فى الاحتفاء نفسه. هذا قبول كل للآخر، وإن بقى ضمنيا غير معلن. ليس معنى ذلك أن القبول عن طيب خاطر بالضرورة، لا تتخلله شائبة، بل يمكن أن يكون قبولا على مضض، فرضته فرضا قدرة التيارات المختلفة، وابتكارها، وتنظيمها، ولكنه على أية حال قبول بشرعية وجود الآخر، وبحقه فى الاحتفاء. فى ميدان التحرير بدا أن المجتمع المصرى الممثل فيه تمثيلا أمينا يقبل بتعدد تكوينه، ويقر بالمشترك بين جماعاته، وبشرعيتها جميعا، وبشرعية الثقافة الفرعية لكل منها. هذا أساس التعايش والندية فى المجتمعات.

 

فى نفس الأسبوع، فى الثالث والعشرين من يناير، كان قد افتتح مجلس الشعب الجديد، وفيه أغلبية، وتيارات، وعضوية جديدة تماما على الحياة السياسية. نشبت خلافات، وعلت أصوات، إلا أن اتفاقا واضحا قد انعقد بين النواب على تكريم الشهداء وعلى رعاية المصابين فى أحداث الثورة المستمرة منذ عام مضى، وعلى معاقبة المسئولين عن استشهادهم أو عن إصاباتهم. وبعد شد وجذب، أعلن فى نهاية الأسيوع عن استئناف التفاوض بين الأغلبية وأحزاب فى الأقلية المدنية على توزيع مناصب الرئيس والوكيلين فى مكاتب لجان مجلس الشعب، وذلك بعد أن خصص واحد من منصبى وكيلى المجلس لنائب ينتمى إلى أحد الأحزاب المدنية العريقة. هذا قبول بوجود الأحزاب المدنية فى البرلمان، وبشرعية تمثيلها لفئات من الشعب، واعتراف بشرعية المناظير الثقافية لهذه الأحزاب وللطبقات والفئات التى تمثلها. وهذا أساس للتعايش والندية فى الأنظمة السياسية. وبالمناسبة، هو اعتراف ينزع من الأغلبية ومن الاتجاهات السياسية الدينية قدرتها، فى أى انتخابات مقبلة، على أن تسم الأحزاب المدنية بالخروج على الدين، وهذا فى حد ذاته، وإن لم يكن مقصودا، تقدم فى الممارسة السياسية.

 

هول مظاهرات الخامس والعشرين من يناير، فضلا عن أنه يخرس من بقى يشكك فى شرعية الثورة وتأييدها الكاسح فى المجتمع، أقنع بدون عناء كبير القائمين على النظام السياسى، خاصة أعضاء البرلمان من الأغلبية والأقلية، أنهم ليسوا أصحاب الشرعية أو الشرعيات الوحيدين فى النظام السياسى الاجتماعى الأشمل. أقر هؤلاء بأن شرعيات أخرى، هى مصادر لنفس شرعياتهم، موجودة فى ميدان التحرير وفى شوارع وميادين مصر الأخرى.

 

●●●

 

لا ينبغى أن يبقى القبول المتبادل بالشرعيات السياسية والثقافية المتعددة عند ما وصل إليه يوم الخامس والعشرين من يناير. لابد أولا من توسيع رقعة المشترك بين الشرعيات السياسية والثقافية المتعددة، ثم تعميق القبول بالاختلافات بينها وترسيخه. ممارسة الحياة السياسية، ومواجهة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، ستفتح المجال أمام توسيع رقعة المشترك، وتعميق القبول بالاختلاف وترسيخه، ولكن العمل القصدى مطلوب أيضا. من الضرورى أن تتحاور القوى السياسية والمجتمعية وأن تتفق فيما بينها على برنامج بناء النظام الديمقراطى المنشود، وعلى قضاياه ذات الأولوية. بعد ذلك، عليها أن تنكب معا على مناقشة بنية النظام السياسى وعملياته الكفيلة بتوسيع المشترك، وبترسيخ الإقرار بشرعية الإختلاف السياسى والثقافى. وليس أجلَّ فى هذا الصدد من عملية التفاوض بشأن الدستور الجديد وصياغة أحكامه. والدساتير أساسا موجودة، ضمن ما هى موجودة له، لصيانة حقوق وحريات الأقليات السياسية، والدينية، والعرقية، والثقافية، وغيرها. وأى تجاهل أو إنكار لشرعيات الخامس والعشرين من يناير، والثالث والعشرين منه، سيعرض أى دستور جديد للوهن والسقوط أمام رياح تهب من تحرك هذه الجماعات أو تلك.

 

على أنه ينبغى أن يكون حاضرا تماما فى أذهان القائمين على بناء الديمقراطية فى مصر أن الجانب الأعظم من صلابة النظام السياسى الجديد، ومن قدرته على مقاومة الأنواء التى ستواجهه والتغلب عليها، ومن شرعيته، سيتوقف على قدرته على تمكين جموع المصريين من المشاركة فى انتاج الثروة والدخل، وعلى التوزيع العادل لهما، بما يكفل للفقراء منهم الانعتاق من الفقر، ولكافة المواطنين الحياة اللائقة الكريمة. لن يمكن لمصرى أن يفخر بأى ديمقراطية يبنيها طالما بقى فيها فقيرا، وأميا، ومريضا لا يقدر على مداواة مرضه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved