الشاعر والدستور

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الإثنين 30 يناير 2017 - 10:10 ص بتوقيت القاهرة

كأن مصر تذكرت فجأة أنها خسرت شاعرا فريدا بعمق تأثيره في الوجدان العام.
نصوص أشعاره انتشرت على شبكة التواصل الاجتماعي كنار في هشيم ومقدمات المسلسلات التلفزيونية التي أبدعها أثارت حنينا عميقا إلى زمن راح.
في كل وجدان مصري وعربي شيء من "سيد حجاب".
‫"‬من اختمار الحلم يجي النهار‬‬
يعود غريب الدار لأهل وسكن"
هكذا أنشد مقدمة "ليالي الحلمية"، الذي ألفه "أسامة أنور عكاشة" عن قصة عائلة مصرية عاصرت ما قبل ثورة يوليو إلى الوقت الذي كتب فيه المسلسل على خمسة أجزاء.
لم تستهوه، وهو الشاعر اليساري الذي قرأ طويلا في التاريخ الحديث وله انحيازاته التي لا يخفيها، أية مباشرة وأضفى من روحه على التاريخ حسا إنسانيا وفلسفيا.
قوة شعره في عمق فلسفته.
بسيطا وعميقا في الوقت نفسه.
‫"‬منين بيجي الشجن‬‬
من اختلاف الزمن"
الاختيار نفسه تكرر في "بوابة الحلواني"، الذي ألفه "محفوظ عبدالرحمن".
‫"‬وندق ندق بالأيدين بوابة الحياة قومي‬‬
افتحي لولادك الطيبين قومي"
موضوع ذلك العمل الدرامي يغري، كما في "الحلمية"، بالمباشرة في التطرق إلى مرحلة حفر قناة السويس وما شهدته مصر من نهضة فنية وعمرانية غير مسبوقة وقت الخديو "إسماعيل" وما تلاها من انكسار بأثر الاستغراق في الديون الخارجية ومؤامرات الإمبراطوريتين الفرنسية والبريطانية، لكنه مضى في اتجاه آخر مخاطبا عمق الضمير العام.
‫"‬أجي أحقق الحلم ألقى الموج عالي‬‬
عالي يا صاحبي"
وقد لحن الموسيقار "بليغ حمدي" تلك الكلمات كأنها رقصة البجعة الأخيرة، غاب طويلا وعندما عاد أودع لحنا يعيش في الذاكرة العامة.
بطبيعة نظرة "سيد حجاب" للحياة والزمن والسياسة عاد في "الحلواني" لهاجسه المقيم.
‫"‬ونعود سوا نطوي الأيام بالحنين"‬‬
لم يكن ينشد لمصر "حلوة الحلوات" في المطلق المجرد بقدر ما كان ينشد لجيل يعاني وأحلام تحبط دون أن يخامره يأس في مستقبل آخر.
الزمن وتقلباته الحادة وأحلامه المحبطة فكرة جوهرية في شعر "سيد حجاب".
‫"‬وينفلت من بين إيدينا الزمان‬‬
كأنه سحبة قوس في أوتار كمان"
وهكذا أنشد في "أرابيسك" أحد أعمال "أسامة أنور عكاشة" من ألحان توأمه الفني "عمار الشريعي".
في ذلك العمل تبدت مهاراته في البناء الشعري، فقد صاغ النص كأنه قطعة من الأرابيسك لكن بالكلمات لا الأخشاب.
كما تبدت قدرته على إلهام المستمعين دون مباشرة حتى لو كان الكلام مباشرا.
‫"‬أهلك يا تهلك‬‬
وأنت بالناس تكون"
لم يكن رهانه على ثورة "يناير" محض تأثر عابر بحدث جلل.
بروحه وأفكاره وشعره راهن على يوم يسترد فيه المصري أمله في حياة لا تخضع لـ: "أصحاب معالي الذلة والانكسار".. "أصحاب فضيلة الغل على اللي استنار"، كما أنشد شعرا في ديوانه الأخير قبل الثورة بشهور "الطوفان اللي جاي".
بحس الشاعر استشعر أن انفجارا هائلا على الأبواب.
وبرؤية السياسي آمل ألا يفضي لإحباط هذه المرة.
كان رجلا متسقا مع نفسه، لم يقف على باب رئيس ولا أنشد في مدح سلطة.
ابتعد عن الضوء وابتعد الضوء عنه ولم يأخذ حقه الذي يستحقه شأن أنداده من الشعراء الكبار.
في لحظة الرحيل المفاجئ تذكرت مصر عمق تأثيره في وجدانها، لكنه جاء متأخرا، فقد مات شبه وحيدا على سرير مرض دون أن يعرف أحد تقريبا أنه يعاني وأنه يوشك أن يغادر الحياة التي أضفى على معانيها أنبل القيم وأفضل ما في النفس البشرية.
في جيله ثلاثة شعراء عامية لهم وزن وتاريخ وأثر، اختلفوا على نحو فادح وكان يستحيل أن يجمعهم لقاء واحد، هم: "عبدالرحمن الأبنودي"، و"أحمد فؤاد نجم"، وهو.
بعد انقضاء الشعراء الثلاثة بقيت الحقيقة وحدها، أنهم لا يعوضون، وأن كلا منهم أبدع وألهم ويبقى إبداعه في ذاكرة الشعر لا ينسى ولا يمحى.
القيمة وحدها تقول كلمتها الأخيرة في نهاية المطاف.
اكتسب "الأبنودي" فرادته من روحه الملحمية التي لا يجاريه فيها أحد.
واكتسب "نجم" فرادته من تمرده الثوري الذي لا مثيل له في تاريخ الشعر المصري الحديث.
واكتسب "حجاب" فرادته من مقدمات المسلسلات، فهو سيدها بلا منازع.
وقد تأثر ثلاثتهم بأسلافهم الكبار من شعراء العامية المصرية.
في البدء "بيرم التونسي" و"بديع خيري" في أجواء ثورة (١٩١٩) وما بعدها طلبا لرفع الهمم في مواجهة سلطة الاحتلال البريطاني.
ثم "فؤاد حداد" و"صلاح جاهين" و"نجيب سرور" في أجواء ثورة (١٩٥٢) ما قبلها وما بعدها طلبا للعدل الاجتماعي.
لا يولد جيل من فراغ، وأسوأ ما هو جار الآن أن التجريف الثقافي أخذ مداه وأحبطت كل الرهانات على بيئة عامة، صحية وحديثة، تحتضن المواهب وترعاها، لا أن تستعديها وتستبعدها.
وقد شارك "سيد حجاب" في اعتصام المثقفين المصريين بوزارة الثقافة، وكان ذلك أحد مقدمات (٣٠) يونيو، غير أن آماله أحبطت، فلا مشروع ثقافي يقنع ويلهم ولا حوار مع المثقفين يصحح ويصوب.
في رهانه على المستقبل شارك في أعمال لجنة "الخمسين" لوضع الدستور وكلف بصفته شاعرا أن يكتب ديباجته.
من مفارقات الحياة والموت عند تجلي المعنى أنه رحل في ذات اليوم الذي اندلعت فيه ثورة (٢٥) يناير قبل ست سنوات.
"حبيبتي من ضفايرها طل القمر
وبين شفايفها ندى الورد بان"
"الموت والاستشهاد عشانها ميلاد
وكلنا عشاق ترابها النبيل"
هكذا كمثقف ملتزم أنشد أغنية مشهد النهاية لفيلم "كتيبة الإعدام" ضد خونة الأوطان ولصوص الانفتاح الاقتصادي.
لم يكن اختيارا عشوائيا تكليفه بكتابة ديباجة الدستور.
باليقين فإن الإنجاز الوحيد الواضح والملموس لما جرى في "يناير" و"يونيو" هو ذلك الدستور الذي انطوى على حريات وحقوق غير مسبوقة.
بقوة الدستور فإن ديباجته جزء لا يتجزأ منه وما تنطوي عليه من صياغات تعلو أي قانون أو سلطة.
كان أهم ما في تلك الديباجة تأكيدها على أن "يناير ـ يونيو" ثورة فريدة واحدة.
رغم رحيل "كاتب الديباجة" فإن ما صاغه واستفتى المصريون عليه هو صلب الصراع على المستقبل.
الذين يريدون تعديله يطلبون بالتحديد قبل أي شيء آخر إلغاء الديباجة التي تنسب الشرعية الدستورية لجذرها في ثورة "يناير ـ يونيو".
الذين يمقتون "يناير" يتوهمون أن مشكلتهم مع ديباجة كتبها شاعر بينما أزمتهم أنهم لا يقرأون التاريخ، كما قرأه "سيد حجاب"، ولا يفهمون أنه لا يعود للخلف أبدا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved