الرؤية القرآنية للكون وسكانه 6 ــ القرآن ورؤية الكون - ب

جمال قطب
جمال قطب

آخر تحديث: الخميس 30 مارس 2017 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

ــ1ــ
رأينا فى المقال السابق كيف رسم القرآن الكريم لوحة شاملة للكون بألوان المسخرات؛ حيث ظهر ذلك فى أسماء صور القرآن وبعض آياته وكثير من ألفاظه، وتلك اللوحة الزاهية تمثل الإطار الجامع لـ«مفهوم الكون» فى تصور المسلم وفى يقينه، فإذا كان الكون هو البيت الكبير للمخلوقات جميعها، فها هى السماوات سقف عال مرفوع يظل ويظلل جميع الكائنات، والأرض هى المسكن والمزرعة والمصنع والمرافق وسائر حاجات السكان من بنى الإنسان والحيوان والنبات، وها هى المجرات بالكواكب والنجوم تصنع لهذا البيت ما يلزمه من أضواء ساطعة أو خافتة أو متلاشية (ليلا)، كما تصنع التوقيت وتقيس الزمن، وتزود السكان بما يلزمهم من الحرارة والدفء والرياح والمطر إلى سائر تأثيرات المناخ التى تكفل راحة السكان عامة والإنسان خاصة، فهل يستطيع المسلم تجاهل أهمية السكن الذى يؤويه؟!! لذلك فالمسلم يعلم يقينا أن كل ما يزحم الكون من مسخرات إنما هى موجودة لراحته فلابد أن يحسن تعامله معها ويتعرف على قوانينها وسننها وكيفية الاستفادة من خيراتها، كما يعلم المسلم أهمية الحفاظ على جميع الموارد ومصادرها حرصا على مصالحه المتعددة والمتكاثرة.
ــ2ــ
أما الإنسان ــ مطلق الإنسان ــ فهو السيد بين المخلوقات، وهو الخليفة المكلف بسكنى الكون وإعماره، ولهذا يحيطنا القرآن علما بالتنوع البشرى الساكن فى الكون، بل نرى القرآن الكريم كثيرا ما يلفت النظر إلى الأجيال السابقة من البشر والحضارات القديمة إعلاما للمسلم الذى يقرأ القرآن أو يسمعه: أنه قد سبقه أجيال وحضارات سادت ثم بادت كى يراجع تاريخ تلك الأمم ويكشف عن أسباب زوالها، وكى يتخذ لنفسه سلوكا يجنبه مزالق الأمم السابقة، لذلك يزدحم القرآن الكريم بالألفاظ المشيرة إلى التعددية البشرية، وها هى بعض ألفاظ القرآن الخاصة بعموم البشر: الناس ــ البشر ــ بنى آدم ــ الإنسان ــ الإنس ــ البرية، كما نلمح تنوعا فى الجنس والوظيفة: مثل الرجل ــ المرأة ــ الزوج ــ الوالدين ــ الأبناء ــ الأحافد ــ الولد ــ البنت، ونرى ما يعبر عن المتغيرات الصحية مثل: المريض ــ الأعمى ــ الأعرج ــ الأكمه ــ الأصم ــ الصم ــ البكم، كذلك يشير القرآن إلى تنوعات مالية واقتصادية: فقير ــ مسكين ــ ابن سبيل ــ غارمين ــ بخل ــ سحت ــ شح، ومن المتغيرات الاجتماعية مثل: زوج ــ مطلق ــ أرملة ــ جار ــ صديق ــ قريب ــ ذو رحم، وكل هذه التنوعات بعضها شريك لبعض فى حق الحياة الآمنة والهادئة.
ــ3ــ
والقرآن الكريم لا يغفل التنوع الدينى الحادث على صفحة الحياة، فالمسلم يوقن تمام اليقين أن الكون يضم العديد من المعتقدات سواء تلك المعتقدات الوضعية (مصدرها البشر) أو المعتقدات السماوية (مصدرها الوحى)، كما أن المسلم مطالب ومكلف بالمحافظة على اتباع كل المعتقدات على اتساع صفحة الأرض. فالعقيدة ــ أى عقيدة ــ علاقة خاصة بين العبد وربه ((لكم دينكم ولى دين))، وليس بين المسلم وبين أصحاب سائر المعتقدات إلا شدة الحرص على عدم العدوان من أى جانب وعلى أى أحد. فالمسلم لا يبدأ أحدا بعدوان أبدا.. وهنا يجب أن نبين حقيقة «الجانب الحربى فى فريضة الجهاد»، فمبدأ الجهاد الإسلامى يفرض على المسلم حمل السلاح فى ثلاثة ظروف محددة. أولها تطهير «جغرافيا الحرم المكى» وإعادته وإبقائه على الحدود التى أقامها أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام. وهذا هو سر حمل المسلمين للسلاح على المشركين فى أرض الحرم وحوله، والظرف الثانى الذى يضطر المسلم فيه ــ اضطرارا دينيا ــ لحمل السلاح فهو ظرف ردع الظالم وإنقاذ المظلوم على اتساع الكون كله، وهذا هو سر حمل السلاح على إمبراطورية الرومان وكذلك الفرس فيما عرف بالفتوح الإسلامية إذ كانت موجهة لرفع ظلم الاحتلال عن الشعوب المحتلة مثل ما حدث فى فتح مصر والشام والعراق. والظرف الثالث والأخير الذى يحمل المسلمون فيه السلاح إما هو ظرف طبيعى مباح لكل الناس، وهو حمل السلاح لرد عدوان المعتدى.
ــ4ــ
هكذا نرى كيفية تصور المسلم واعتقاده لما يجب أن يكون عليه الكون وسكانه، فالعلاقة بين البشر وبين الكائنات الأخرى علاقة السيد (الإنسان) بالأتباع (سائر المسخرات)، أما علاقة المسلم بسائر البشر سواء كانوا مسلمون مثله أم أهل كتاب مثل اليهود والمسيحيين أم أصحاب معتقدات وضعية فالجميع بشر وله حق الحياة ما لم يعتد على أحد من المسلمين وما لم يمارس الظلم على أحد من سائر البشر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved