آسيا تعيد تعريف نفسها

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 30 أبريل 2015 - 9:35 ص بتوقيت القاهرة

تصدرت باكستان الأنباء مرتين خلال الأيام القليلة الماضية، مرة حين رفض برلمانها مشاركة القوات المسلحة الباكستانية بريا فى حرب اليمن رغم تاريخ تحالفها الطويل والمكثف مع المملكة العربية السعودية، ومرة ثانية حين أعلن الرئيس الصينى «تشى» من داخل باكستان خلال زيارته لها تقديم معونات وقروض تكاد تكون غير مسبوقة فى حجمها من دولة إلى دولة أخرى. لا أبالغ حين أعرب عن اعتقادى أن هناك صلة ما تربط بين النبأين. إذ يبدو واضحا من خلال متابعة متأنية لتطور الأحداث فى آسيا، وتداخلها مع تطورات دولية وإقليمية مثيرة، إن القارة الآسيوية منغمسة إلى درجة كبيرة بمرحلة حبلى بعديد التوقعات. لعلنا لاحظنا أن السباق الدولى على الشرق الأوسط ما زال مندفعا على طريق الانحسار بقوة غير مألوفة، بينما السباق الدولى فى آسيا تتضاعف وتيرته وأدواته أيضا بأشكال أيضا غير مألوفة.

هنا، وفى قلب آسيا تقف باكستان متأهبة لدور ليس بالضرورة من صنع قادتها وآبائها المؤسسين، بقدر ما هو من صنع «الجغرافيا»، التى فرضتها فاصل طبيعى بين الصين والهند، العملاقين الآسيويين الصاعدين، ومن صنع قرن الاستقلال الوطنى، الذى شهد انقسام الهند وخروج باكستان دولة إسلامية مستقلة، فأضاف إلى وضعها كفاصل «طبيعى» بين الصين والهند وضع الفاصل «المنطقى»، فاصل بالدين واللغة واحقاد الحروب.

•••

سمعنا، خلال الأعوام الأخيرة، عن نية الولايات المتحدة التحول بتركيزها السياسى والاستراتيجى، بل والاقتصادى أيضا، نحو شرق آسيا كبؤرة اهتمام أولى. ورأينا بالفعل بوادر هذا التحول التى إن استمرت تضطرد بمعدلاتها الراهنة فسوف تكون لآسيا خلال سنوات الأولوية المطلقة فى سلم أولويات السياسة والمصالح الأمريكية فى الخارج. رأينا أيضا خلال السنوات الأخيرة، المدى الذى وصلت إليه، عمقا ومضمونا، السياسة الخارجية الصينية، فى بعدها الآسيوى، رأيناها فى شكل طرق وبنية تحتية وخطوط سكة حديدية وموانئ على مياه البحر العربى والهندى وبحر الصين الجنوبى متطورة تكنولوجيا وشبكات طرق جديدة تربط شرق آسيا ببقية العالم.

وحين سمعنا ورأينا عرفنا أن الصين تسعى بجهد خارق وتكلفة هائلة من أجل «تمهيد الأرضية الآسيوية استعدادا لاستقبال التحرك الأمريكى القادم لا محالة»، بمعنى آخر تسعى الصين لتجعل استقبال «الغزوة السلمية» الأمريكية مختلطا بنكهة آسيوية قوية، تطرد أى احتمال أو توقع أمريكى بأن يتحول «التحول نحو الشرق» من مشاركة فى النفوذ والتعاون مع العملاق الصينى الصاعد إلى «هيمنة» أمريكية كتلك التى مارستها الولايات المتحدة، وفرضتها على أمريكا الجنوبية طيلة قرنين من الزمن.

سوف تجد أمريكا فى انتظارها فى شرق وجنوب شرقى آسيا حين تكتمل خطوات تحول سياستها إلى الشرق، «نظاما إقليميا جديدا»، دعا إلى إقامته الرئيس تشى فى مؤتمر قمة دول شرق وجنوب شرقى آسيا الشهر الماضى. نظام يجرى تعريفه بعقول ومصالح آسيوية، وليس نظاما تخطط له وترسم معالمه وتعين قياداته قوى غربية أو أى قوى أخرى من خارج الإقليم. أتصور أن هذه الدعوة التى أطلقها الرئيس تشى فى منتدى «بواو»، الذى انعقد فى جزيرة هاينان فى بحر الصين الجنوبى، إعلان صريح عن نية الصين عدم السماح لأمريكا أو غيرها من القوى الأوروبية للتدخل أو صياغة مستقبل شرق آسيا. وهو فى حد ذاته «إعلان تاريخى»، بمعنى أن النظام الإقليمى الآسيوى الجديد سيكون الأول بين النظم الإقليمية الذى يقوم بإرادة محلية وليس بإرادة خارجية. المدهش فى هذا التطور أنه يحدث فى وقت تتعدد وتتسابق فيه الرؤى «الغربية» لنظام إقليمى جديد يقوم فى الشرق الأوسط. يبدو حتى الآن، من ظواهر الأمور، إن العقول العربية، غائبة عن هذه الرؤى وبالتالى عن السباق، وليس بعيدا أن يصيبنا الندم كالعادة ونبكى على ضياع فرصة أخرى حين نفاجأ بحروب وفتن، وإرهاب وتدخل خارجى من كل نوع وصوب، تمهد لقيام نظام إقليمى جديد فى الشرق الأوسط. مثير ومفيد معا أن نراقب بعقولنا السياسية مسيرة بناء نظام إقليمى بعقول محلية بدلاً من انتظار نظام إقليمى فى الشرق الأوسط أبدعته رؤى، ليس من بينها رؤية عربية.

•••

مفيد أيضا أن نتابع مختلف الجهود الآسيوية والأجنبية لمنع أفغانستان من ان تصبح «الدولة المشكلة» فى هذا النظام الإقليمى الجديد. ليس خافيا القلق الممسك الآن بصانع القرار فى روسيا وحلفائها فى كل من طاجيكستان وتركمنستان وقرغيزستان وأوزبكستان، من عمليات تجميع قوات طالبانية وميليشيات داعشية فى مناطق شمال أفغانستان.. عادت روسيا تعزز قواعدها العسكرية فى دول وسط آسيا وترسل خبراء عسكريين إلى مناطق حدود الدول المجاورة لأفغانستان. لا يعفى ذلك التطور الصين من أن تكون سببا ثانيا لقلق روسيا، وبخاصة بعد أن تضاعف نشاطها السياسى والتجارى مع أفغانستان ودول وسط آسيا. يحدث هذا فى الوقت الذى كادت الولايات المتحدة تنتهى فيه من وضع الخطط لتنفيذ شبكة سكك حديدية فى أفغانستان، وضعت الخطط وزارة الدفاع الأمريكية باعتبارها الجهة الأكثر تخصصا فى نشاط السكك الحديدية وقضاياها فى الولايات المتحدة، وتكشف الرسومات الأولية لخطوط هذه الشبكة عن تمددها فى اتجاه إيران أساسا وكذلك باكستان، باعتبارهما أفضل وأقرب الدول الآسيوية إلى الاسواق العالمية، يجرى حاليا البحث عن حلول لمشكلة اختلاف سعة قضبان السكك الحديدية فى كل بلد عن البلد الآخر، وهى المشكلة التى خلفها الاستعمار الغربى فى أفريقيا وأمريكا الجنوبية لتقليل فرص الاتصال المباشر بين المستعمرات.

•••

أتطلع شخصيا إلى التعرف على تفاصيل ونتائج زيارة نارندرا مودى رئيس وزراء الهند إلى الصين فى شهر مايو المقبل. لا أتوقعها زيارة شكلية أو احتفالية، ولكنى أتصور أنها ستكون الخطوة الحاكمة التى ستحدد شكل وأساليب العمل الدولية خلال القرن الآسيوى الذى انطلق بالفعل، أو لعله على وشك الانطلاق. لا أظن ان المحادثات ستكتفى بتحقيق تقدم فى مسائل نزاعات الحدود بين البلدين، وهى كثيرة ومعقدة ومؤلمة، ولكنى أعتقد أنها ستتجاوز الحدود الجغرافية إلى مفاوضات أعقد وأطول حول «حدود النفوذ» بين قوتين صاعدتين فى آسيا، ومحاذير علاقة كل من الطرفين بالقوى الكبرى فى الغرب، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية.

•••

آسيا، كما يبدو، مقبلة على تطورات مهمة سوف تنعكس آثارها بالضرورة على مختلف أقاليم العالم، ونحن نعيش فى واحد من هذه الأقاليم. من ناحيتى، كمراقب ومتابع، أجد نفسى مهتما بتفاصيل محادثات وخطط ورؤى إقامة نظام إقليمى جديد فى شرقى وجنوب شرقى آسيا، أو كما يحلو لبعض الأكاديميين الغربيين تسميته حلقة فى سلسلة جهود متناثرة، ولكن جادة نحو «إعادة تعريف النظم الإقليمية القائمة» وجولة من جولات الحوار، الذى لم يتوقف حول جدوى التنظيم الإقليمى فى عملية حفظ الأمن والاستقرار والارتقاء بمستوى معيشة الإنسان العادى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved