الاختطاف الثاني

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: السبت 30 مايو 2015 - 9:15 ص بتوقيت القاهرة

لا توجد قواعد تضبط الأداء العام

كل شىء قلق ومحل تساؤل

القلق طبيعى عند المنعطفات الحادة والتساؤل من طبيعة الخشية على مستقبل البلد كله.

فى غياب أية قواعد دستورية تحترم من غير المستبعد تماما اختطاف «يونيو» كما اختطفت «يناير».

بين اختطافين عانت مصر فوق طاقتها على التحمل.

لم تتصدر الجماعة مشاهد «يناير».

كانت آخر من دخل الميدان وأول من غادره لكنها طلبت «التكويش» على السلطة.

وقد دفعت الثمن باهظا.

ولم يلهم الماضى مشاهد «يونيو».

توارى إلى الظلال ولم يكن أحد يريد أن يراه، لكنه يطلب الآن الجوائز كلها.

وسوف يكون السقوط مرة أخرى مدويا.

تآكل الرهانات الكبرى على الانتقال إلى مجتمع ديمقراطى وعادل يشجع العنف على التمدد.

لا يمكن أن تستمر الأوضاع الحالية على ما هى عليه.

تقدم الماضى يصادر المستقبل فى بلد لا يحتمل مرحلة انتقالية ثالثة.

لا يوجد بديل آمن سوى إقرار القواعد وحسم التصورات.

أن تكون هناك قرارات على ذات مستوى الخطر تضع حدا لمراكز القوى العائدة فى السياسة والاقتصاد والإعلام والأمن.

لا توجد قرارات من مثل هذا النوع.

فلا إصلاح فى الجهاز الأمنى رغم أن انفلاتاته تكاد تصيبه فى صلب دوره.

ولا إصلاح فى الجهاز القضائى وفق القيم الدستورية رغم ما ألم به من صدوع تهدد بنيانه التليد.
ولا إصلاح فى الجهاز الحكومى الذى جرى تخريبه بالكامل تقريبا.

ولا إصلاح فى البنية السياسية يسمح بتعددية حقيقية وأن يكون البرلمان المقبل ممثلا لحيوية المجتمع وحركته لا لقوة المال السياسى.

فى غياب أى إصلاح وأية قواعد قد نصل بالضبط إلى النقطة التى تطلبها جماعات العنف والإرهاب.

أن تظل الدولة معلقة فى الهواء.

الذين يطلبون العودة بقوة المال والنفوذ ينسون أن المجتمع المصرى تغير بعمق.

أن وجودهم ذاته تحريض على العنف والإرهاب.

رغم التجربة المريرة فإنهم لم يتعلموا شيئا ويكررون الأخطاء نفسها.

كان نظام «حسنى مبارك» هشا ينتظر هبّة ريح كى يتقوض بالكامل.

الشيخوخة السياسية دبت فى مفاصله رغم دعايات «الفكر الجديد».

سدت القنوات السياسية وبدا أن الإصلاح من داخل النظام وهم مفرط بعد التزوير الفاحش للانتخابات النيابية عام (٢٠١٠).

توحشت الآلة البوليسية وتصدر وزير الداخلية اللواء «حبيب العادلى» المشهد الجديد باعتباره الرجل القوى فى نقل السلطة من الأب إلى الابن.

بالغ الحرس الجديد فى «لجنة السياسات» من قوة الحزب الوطنى التى ناهزت عضويته (٢‪.‬٨) مليون، غير أن كل شىء انهار فى أيام.

لا الآلة البوليسية صمدت ولا «الوطنى» تصدى.

واجه النظام مصيره بلا مقاومة تقريبا.

دفع ثمن استهتاره بأية قيمة جمهورية، فمصر ليست عزبة تورث.

ودفع ثمنا مماثلا لتوحش الفساد ونهب المقدرات العامة.

كان هناك من يتصور أن الانعزال فى منتجعات سكنية على أطراف العاصمة يضمن أمنا أكبر فيما لو نشبت اضطرابات اجتماعية تتولى عصا الشرطة الغليظة قمعها.

لم يكن أحد من القوى الاقتصادية المتنفذة يستبعد تمردا ما أو خطرا مفاجئا.

كل ما خطر ببالهم فى التحسب لمثل هذا اليوم أين تودع الأموال فى الخارج بأمان وكيف يغادرون مصر بسرعة.

كانت المطارات الخاصة كلمة السر فى هذا النوع من التفكير.

فى أجواء الثورة التونسية قبل «يناير» مباشرة قال أحد الذين اعتادوا بحكم عملهم زيارة الرئيس الأسبق من وقت لآخر: «إحنا خايفين يا فندم».

سأله على الفور: «أنتم مين؟».

أجابه الذين يمتلكون ثروات يخشون عليها وقد لا يجدون أمامهم فرصا للخروج الآمن.

كان رد «مبارك» صاعقا: «أنا اللى حاميكم».

لكنه فشل أن يحمى نفسه.

من المثير أن الرجل الذى خشى على ثروته من الحساب تولى موقعا وزاريا فى وقت تال.

هذه تراجيديا كاملة.

الأكثر إثارة أن «رأسمالية مبارك» لم تخف استعدادها لبناء شراكات اقتصادية مع رجال أعمال الجماعة.

فى عمق الخيارات الاقتصادية لم تكن هناك فروق تذكر بين حكم «مبارك» وحكم «الجماعة».

بهذا المعنى فإن الاختطاف الثانى من نفس طبيعة الاختطاف الأول.

فى الاختطافين مصادرة لأى أمل فى الانتقال إلى مجتمع ديمقراطى حر يتبنى العدل الاجتماعى.

غابت القواعد تماما وانفسحت الفرص أمام المختطفين.

مرة بقوة التنظيم والسلاح ومرة أخرى بقوة المال والنفوذ.

فى الأولى انهارت أية قواعد دستورية وفى الثانية نحى الدستور نفسه.

فى تجفيف السياسة مشروع تصدع مؤكد.

رغم أية اجتماعات رئاسية مع الأحزاب فإنها تفتقد أى زخم أو معنى، فأغلب الأحزاب المدعوة هامشية وموضوع الحوار لا يقترب من أية قواعد لابد أن تستقر.

ليس دور الرئيس أن يطلب من الأحزاب أن تتجمع فى قائمة انتخابية واحدة بقدر أن تكون هناك قواعد تضمن نزاهة الانتخابات وفق قوانين تمكن الأحزاب من خوضها.

عندما تغيب القواعد فإننا أمام خطرين داهمين فى وقت واحد، كل منهما يضفى شرعية على الآخر.

فساد الماضى يضفى شرعية على الجماعة ويزكى عنفها.

وعنف الجماعة يبرر للماضى تحالفه مع بعض الأمن وصراخه الإعلامى.

بين اختطافين تكاد أن تنزلق مصر إلى حروب فى الظلام.

تسطيح الحقائق الكبرى يفضى بنا لا محالة إلى الطرق المسدودة.

لا الاختطاف الأول صمد طويلا ولا الاختطاف الثانى مرشح لأى صمود.

عقلية لجنة «السياسات» التى تهيمن على التفكير الحكومى نهايتها معروفة.

تأجيل الضريبة على الأرباح الرأسمالية فى البورصة يلخص أزمة القرارين الاقتصادى والسياسى معا.

بحسب معلومات مؤكدة فإن وزير المالية اعترض على قرار التأجيل ورئيس الجمهورية تقبله بصعوبة تحت إلحاح وزراء آخرين فى المجموعة الاقتصادية.

فضيحة كبرى أن المؤسسات المالية الدولية انتقدت قرار التأجيل، كأنها على يسار حكومة يمينية متوحشة.

وكأن القيم الدستورية تمسح بها أرضية اجتماعات المجموعة الاقتصادية الحالية.

هذا مجرد مثال على تدهور النهج الاقتصادى وتغول مراكز القوى الاقتصادية على أية نزعة للعدل الاجتماعى.

بعبارة أخرى لا توجد قواعد لنظام اقتصادى جديد يستجيب للدستور، وهذه بوادر أزمات اجتماعية لا يمكن تجنبها، لا بقوة الأمن ولا بصراخ الإعلام.

بقدر اتساق السياسات مع الدستور وقطع الطريق على الاختطاف الثانى فإنه يمكن تجنب مصائر مرعبة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved