عمر

كمال رمزي
كمال رمزي

آخر تحديث: السبت 30 مايو 2015 - 9:10 ص بتوقيت القاهرة

فى هدوء يبلغ حد الصمت، يعرض هذا الفيلم الفلسطينى الذى نال، عن استحقاق، مجموعة من الجوائز والتقديرات الدولية الرفيعة.. إهمال الصحافة الفنية، والأجهزة الإعلامية للأمر، يؤكد استمرار سياسة الإلهاء التى ترمى إلى صرف الأنظار عما هو جاد، وذلك بتحويل الاهتمامات نحو سفاسف الفضائح، مثل كليب «سيب ايدى» التافه، أو البحث المضنى، العبثى، عما إذا كانت الممثلة المغمورة، رغد سلامة، متحولة جنسيا، من ذكر لأنثى، أم أنها ولدت «بنت» صاغ سليم.

«عمر»، فيلم عربى مشرف، بتوقيع ابن مدينة «الناصرة»، الفلسطينى الموهوب، هانى أبوأسعد، صاحب الأسلوب الواقعى البديع، المستوعب لاتجاهات السينما المعاصرة، المتأثر، أصلا، بالسينما المصرية التى عشقها صبيا وشابا، حتى إنه يقدم لها التحية مرتين، من داخل الفيلم، ومن خارجه.. بطله، بأداء آدم بكرى ــ ابن الفنان الكبير محمد بكرى ــ فى غرفته، يلصق على الجدار، غلافا لمجلة «الكواكب»، وصورا لأنور وجدى وليلى مراد وعمر الشريف وفاتن حمامة.. وفى أكثر من حديث معه، يصرح بأن «عمر»، يأتى فى سياق أفلام من نوع «فى بيتنا رجل» و«الكرنك».

واقعية هانى أبوأسعد ليست مجرد محاكاة لما يحدث فى الحياة، لكنها إدراك للمعانى الكامنة وراء ما يرصده من معطيات.. فى المشهد الافتتاحى، تصطدم عيوننا بالجدار العازل، الطويل، الممتد على عرض الشاشة. «عمر»، الشاب العشرينى المفعم بالحيوية، يمسك بحبل، يتسلق الجدار بسرعة ومهارة، يهبط فى الجانب الآخر، بينما صفارات الإنذار الإسرائيلية تدوى، يجرى بين الحوارى والأزقة التى يحفظ مداخلها ومخارجها عن ظهر قلب. يصل أخيرا إلى بيت صديقه «طارق» ــ إياد حوزانى ــ حيث يلتقى صديقهما الثالث «أمجد» ــ سامر بشارات ــ كى يتفقوا على أمر ما.

وراء هذه اللقطات الساخنة، السريعة، بمطاردة جنود الاحتلال المحمومة، الفاشلة، لبطلنا، رؤية، أوسع وأعمق من مجرد كونها مدخلا مثيرا لعمل ينتمى لأفلام الحركة أو «الأكشن».. الجدار أولا، يعنى الفصل بين الأجزاء الموصولة، كئيب ودميم، شاهد على غطرسة سلطة خائفة، لا ينجح فى مسعاها، فها هو «عمر»، بمهارة، ينجح فى تجاوزه إلى الجانب الآخر، ولا تفوت عين هانى أبوأسعد، فى لقطة عابرة، رصد الصبية الفلسطينيين، وهم يلقون الحجارة على جنود أقل خبرة ودراية بدروب المنطقة.

عمر، يرتبط عاطفيا بأخت «طارق»، الرقيقة، الهادئة، التى تمور بالمشاعر، نادية، التى تؤدى دورها، بتمكن مثير للإعجاب، ليم لوبانى، ذات الوجه النحيل، والعيون التى تنطق بالانفعال، من دون كلمة واحدة، بل من دون حركة مادية، فالحب عندها نظرة، واثقة وصريحة، وأكثر من مرة، تحتضنه، تقبله، بابتسامة شغف مستترة.. والحق أن هانى أبوأسعد يجيد إدارة ممثليه، ويمنح كل منهم لمسة خاصة، فمثلا، يجعل عمر من هواة التمثيل، وها هو، استجابة لطلب نادية، يقلد، بمهارة، مارلون براندو، فى «الأب الروحى».

بموقف واحد، يعبر الفيلم عن معنى الاحتلال. جنود يوقفون «عمر»، يطلعون على بطاقته، وبلا مبرر، يأمرونه بالوقوف فوق حجر مهتز.. يضطر للامتثال، يفيض به الكيل مع تكرار محاولاته الحفاظ على توازنه. يترك الحجر ويتجه نحوهم. أحدهم يبادره بضربة كعب مسدس. الدم يسيل من فمه وأنفه.. انه تلخيص بليغ، واقعى، لأحد جوانب المهانة.

الأصدقاء الثلاثة يشكلون خلية تابعة للمقاومة، يطلقون رصاصة على جندى إسرائيلى ترديه قتيلا.. يتم القبض على عمر.. بعد جولات تعذيب، تأتى فرصة «الخلاص المدمر» على يد ضابط المخابرات، الإسرائيلى الداهية، بأداء متميز من وليد زعيتر. يعرض عليه إطلاق سراحه بشرط أن يغدو عميلا.. وليد زعيتر، أحيانا، يتظاهر بحنوه على «عمر»، فيبدو كما لو انه استثناء فى منظومة الاجحاف، لكن تتكشف أغواره اللئيمة، القاتلة معنويا، حين يبلغ عمر أن حبيبته نادية، حامل من صديقه أمجد، فى الوقت الذى تسرى شائعة عمالة «عمر» للموساد.

دوامة الشكوك تدور حول الجميع، يتحول الوئام، بين الأصدقاء، إلى مزيج من المخاوف والحذر والتربص.. فى إحدى المواجهات العاصفة بين الثلاثة، تنطلق رصاصة تردى «طارق» قتيلا.. قائد المقاومة الجديد، مع بعض الشباب، يستجوبون «عمر»، البرىء، المشكوك فى وطنيته.. «عمر»، الذى فقد حبيبته، أصبح منزويا، محاصرا، يطلب من الضابط المخابراتى مسدسا، بادعاء استخدامه إذا دعت الضرورة.. وبينما يقوم الضابط بتعليم «عمر» كيفية إطلاقه، يلتفت الأخير إلى الأول، ضاغطا على الزناد. ومع دوى الرصاصة، لتغرق الشاشة فى ظلام دامس.. هكذا، كأن الجملة الأخيرة فى الفيلم النافذ البصيرة، تؤكد أن جذر التراجيديا السوداء، تكمن فى الاحتلال الذى لن يحميه جدار عازل، أو جنود قساة، لن يسلموا من مقاومة تأتى كضرورة.. إنه فيلم كبير، فنيا وفكريا، يستحق اهتماما يليق به.. وللأسف، عندنا، لم يحدث.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved