فى أسباب الاحتقان الطائفى ومقترحات للتعامل معه

زياد بهاء الدين
زياد بهاء الدين

آخر تحديث: الإثنين 30 مايو 2016 - 10:05 م بتوقيت القاهرة

لا أملك حيال جريمة «أبو قرقاص» إلا أن أضم صوتى إلى الأصوات التى تطالب بتطبيق القانون بعدل وحسم، وتقديم الجناة إلى العدالة، ومحاسبة المسئولين عن هذا التقاعس المشين، والابتعاد عن أسلوب الصلح العرفى الذى يأتى على حساب الضحية.


ولكن إن كانت هذه الجريمة قد أثارت لدى الرأى العام مشاعر استنكار وغضب شديدين بسبب شدة قبحها وشذوذها، فإنها للأسف الشديد ليست منبتة الصلة بالواقع الاجتماعى، بل تعبير عن تصاعد التعصب والطائفية والاحتقان فى المجتمع، على نحو يلزم معه فهم الأصول والأسباب، لكى يمكن التعامل مع هذا الوضع الخطير بشكل سليم.


وتقديرى أن فهم الإطار الأشمل لهذا التعصب والاحتقان يكون بالنظر إلى أن الدولة قد وجهت طاقاتها ومواردها لمحاربة الإرهاب والعنف باستخدام الأدوات الأمنية فقط، فإنها فى ذات الوقت قد كبلت الآليات الفكرية والثقافية والأهلية التى تحارب الفكر المتعصب وثقافة الطائفية والعنف والكراهية، وحرمت المجتمع من التفاعل السياسى الذى يقوم بدور شديد الأهمية فى تأصيل وترسيخ التعدد والحوار ومحاربة التطرف بكل أشكاله. لذلك فإن كان فرض الأمن وتطبيق القانون وملاحقة المجرمين مطالب ضرورية وليست محلا للمساومة، فإنها ليست نهاية المطاف، بل يجب أن يصاحبها اعتراف بحقيقة التعصب والاحتقان السائدين فى المجتمع، واستعداد للتعامل مع الأسباب التى تؤجج هذا التوتر وتهيئ له المناخ الخصب للنمو.


فى هذا الإطار يجب العمل فورا على إصدار قانون لمنع التمييز بكل أشكاله، وبما يحقق المواطنة الكاملة لكل أفراد الشعب المصرى، رجالا ونساء، مسلمين ومسيحيين، فقراء وأثرياء، شبابا وكهولا. والمساواة لا تكون كاملة إلا إن كانت فى كل الحقوق والواجبات، فى فرص وظروف العمل، وفى تقلد المناصب العامة، وفى الخدمات التى تقدمها الدولة، وفى حرية العقيدة والعبادة. كما يلزم أن يتضمن هذا القانون عقوبات رادعة لكل من يمارس التمييز، ومن يسكت عنه، أو يحرض على التفرقة بين المواطنين.


ومن جهة أخرى فإن علينا إدراك أن الرادع الحقيقى للتعصب والعنف ليس الأمن وقانون العقوبات وحدهما، بل مناخ الحرية والتعدد. مهما حاولت الدولة أن تعتمد على الأمن لمجابهة الطائفية والعنف، فلن يمكنها أن تحرس كل شارع وكل كنيسة وكل مسجد، وأن تحيط بقواتها كل جامعة ومصنع وميدان. ولذلك فإن تقييد حرية التعبير، ورفض التعدد فى المجتمع، وحبس أصحاب الأصوات المعارضة، وقبول استمرار العمل بقوانين تدفع بالشباب والأطفال إلى السجون لمجرد التعبير عن الرأى، وتسكت المفكرين والكتاب، إلى كل هذا يصب فى مصلحة التعصب والانغلاق، ويحرم المجتمع من التفاعل الصحى بين التيارات المختلفة، ويشجع على نمو الأفكار المريضة والمتطرفة التى لا تجد الفكر المستنير والمتحرر الذى يقابلها ويتصدى لها.


ويلزم كذلك إعادة الاعتبار للدستور والقانون والعدالة بشكل عملى وحقيقى وليس بمجرد ترديد عبارات الاحترام والتبجيل. فلا شك أن وراء الانفلات الذى عبرت عنه جريمة «أبو قرقاص» الشعور السائد فى المجتمع بعدم أهمية الدستور، وإمكان التغاضى عن إحكامه، واستمرار العمل بقوانين مخالفة له، وبوجه عام هناك تعارض بين التطبيق الكامل للقانون والعدالة وبين متطلبات حماية الامن القومى وتحقيق الاستقرار. هذا التراخى فى تطبيق القانون واحترام الحقوق الدستورية، يفتح الباب للتجاوزات والتنازلات ثم اللجوء إلى المصالحات العرفية الجائرة بوصفها أداة لتحقيق الهدوء والاستقرار.


بالإضافة إلى ما سبق فلابد من إطلاق المجال لنشاط المجتمع المدنى القادر على تفعيل الحوار بين الشباب، والتعاون فى مواجهة متطلبات الحياة اليومية، والتقارب بين الناس من مختلف الظروف والثقافات، وعلى وضع آليات للإنذار المبكر والتدخل قبل انفجار العنف والتعصب. هذا الدور الوقائى للجمعيات الأهلية والمجتمع المدنى عموما لم يعد متاحا حينما اختارت الدولة أن تضيق الخناق على النشاط الأهلى بكل أشكاله توجسا من أن وراء كل مبادرة وعمل تطوعى مؤامرة خارجية وتدخل أجنبى. الدولة مهمتها أن تستخدم أدوات الأمن والقانون لمجابهة الجريمة والعنف، ولكنها لا تقدر بمفردها أن تصحح فكرا منحرفا أو تقاوم تعصبا له جذور اجتماعية وثقافية عميقة. هذه مهمة المجتمع ومؤسسات الدولة المدنية. ولكن هذه المؤسسات لا يمكن أن تقوم بدورها التنموى والوقائى إذا استمرت الدولة تحاصرها وتضيق عليها مساحات العمل والتأثير.


وأخيرا فمن الضرورى مراجعة السياسة الاقتصادية للدولة وأولويات الإنفاق العام وإعادة توجيه الاهتمام والموارد، بما يحسن من الخدمات العامة فى القرى النائية والمناطق العشوائية بدلا من استنزاف كل الطاقات والموارد المتاحة فى مشروعات قومية كبرى، قد تكون ذات عوائد عظيمة فى المستقبل البعيد، ولكنها لا ترفع عن كاهل المواطنين أعباء الحياة اليومية ولا توفر للشباب فرصا للعمل ولا مجالا لتنمية المواهب والكفاءات ولا تسلحه بأدوات تعينه على مقاومة الفكر الظلامى الذى يحيط به من كل جانب.


***


أتمنى تطبيق القانون بكل حزم وعدل على مرتكبى جريمة «أبو قرقاص»، ولكن أتمنى أيضا أن تكون بشاعة هذه الجريمة ناقوس خطر ينبهنا إلى خطورة ترك المناخ الفكرى والثقافى الراهن والاحتقان الاجتماعى على حاله، وإلا فإن الجرائم سوف تتكرر والتعصب يستمر فى هدم النسيج الوطنى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved