دموع السياسة

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 30 مايو 2017 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

عشت خلال حياة مديدة شاهدا على تدفقات دموع من كل نوع ولكل سبب وبكل غزارة. كنت شاهدا على دموع مصريين بينما المصريات يزغردن فى مواكب المحمل والملك فاروق وأمام أجهزة الراديو صباح يوم الاعلان عن الحركة المباركة. كنت أيضا شاهدا على دموع فلسطينيين يتعذبون فى سجن غزة وآخرين يتعذبون فى سجن بير سبع. تعرفت على دموع السياسة صغيرا وقبلها كنت مثل كل أطفال تلك الأيام شاهدا على دموع الحزن الجماعى فى العائلة الممتدة ودموع السعادة فى عائلتى الصغيرة عندما تزوجت شقيقتى، ودموع فرحة أبى فى كل مرة عدت متأخرا من سهرة مراهقين أو راجعا سالما من رحلة طلابية حفلت بالأزمات والمغامرات كتلك الرحلة التى شهدت اعتقالى وطلاب آخرين على حدود غزة واحتجازى فى سجن فى النقب عدة أيام.
كنت شاهدا على دموع شعوب أبعد. حضرت فى الهند مراسم حرق جار فرأيت أنهار الدموع تذرفها عيون الأهل والجيران، وبخاصة دموع الزوجة التى ترملت مبكرا. أشفقت يومها على هذه المرأة التى سوف تتعرض للحصار والانعزال، لن تزور ولن تزار. لن تتزوج مرة أخرى. تتساءل وأنت تشاهدها تصرع وتبكى إن كانت دموعها دموع حزن على فقدان رجل أحبت أم دموع يأس من أن يسمح لها المجتمع فى المستقبل بحب آخر كالحب الذى تراه أمامها مع الورود وأغصان الشجر يحترق. أم أن دخان الحرق مسئول عن معظم الدموع التى جرت وتدفقت خلال هذه المراسم.
كنت أيضا شاهدا على دموع فى الصين. لا أظن أننى يمكن أن أنسى دموع امرأة لم أحاول التكهن بعمرها. كنت أقابلها كل صباح على الطريق إلى مكان عملى، تكنس وتجر عربة قمامة فى درجة حرارة تنخفض معظم أيام الشتاء إلى ما تحت الصفر وأمام ريح سيبيرية تنفذ مباشرة وبكل العزم الممكن إلى العظام. رأيت الدموع تتجمد على وجهها فور تعرضها للبرد ومع ذلك تظل العين تذرف الدمع سائلا. الدمع طالما فى مآقى العين فهو آمن على نفسه. عدت إلى الصين مع الصديق محمد حسنين هيكل الذى طلب زيارة معسكر إعادة تأهيل المواطنين سياسيا واجتماعيا. دخلنا قاعة جلس فوق أرضها الأسمنتية عدد لا يقل عن المائتين من المواطنين كلهم بدون استثناء يرتدون البذلة الزرقاء التى يرتديها كبار القادة وعلى رأسهم الرئيس ماو ورئيس وزرائه شواين لاى. كلهم كما قيل لنا كاد يكتمل تأهيلهم بدليل أنهم، كما سنرى، لا يذرفون الدموع وهم يدلون باعترافاتهم عن ذنوب، وطنية واجتماعية وأخلاقية، ارتكبوها، وهم نادمون. بالفعل سمعنا اعترافات ولم نرَ دموعا، دليل أكيد على أنهم تخلصوا من الشعور بالذنب وحصلوا على مغفرة المجتمع.
***
الدمعة فى حد ذاتها قد لا تعنى شيئا وقد تعنى كل شىء. قد تعنى أن جسما غريب دخل إلى العين فوجب إخراجه فورا، ولكنها قد تعنى أن حدثا جللا قد وقع أو جرحا عميقا أصاب الجسم أو الروح أو القلب. الدموع لغة عالمية. لغة بالاشارة تفهمها كل الشعوب ولا تخطئها عين. الدموع صريحة لا تعرف الكذب. قد تخفى الكثير ولكنها بالتأكيد لن تغير «الحقيقة». الحقيقة هناك فى العين لمن يريد أن يتحقق. الحب هناك فى العين وكذلك الغدر والملل والخيانة والاستهانة بذكاء الآخرين وكلها فى رأيى مشاعر دخيلة وغريبة عن العين. قيل إن الدمع يغسل العين وفى ظنى أن هذا القول صحيح، فهو يطرد الأجسام الغريبة، وأنا أقول إنه كما يطرد الأجسام الغريبة فهو أيضا يساعد فى طرد المشاعر الغريبة.
أما وللدموع هذه الوظائف المتعددة والأهمية القصوى يصبح جائزا السؤال عن أصلح وأكفأ من يفهمه ومن يطببه ومن يؤتمن عليه. سألت فعلا. كثيرون أفتوا بطبيب العيون متخصصا، والبعض اختار أطباء الأعصاب، آخرون نصحوا بطبيب القلب فالدموع فى رأيهم ما هى فى نهاية الأمر سوى «بهريز» عواطف ومشاعر. ثم جاء من يفاجئنى باقتراح ضم علماء السياسة إلى قائمة المتخصصين فى علاج الدموع. يقول هل بيننا من ينكر أن معظم الدموع التى يذرفها المصريون هذه الأيام دافعها وسببها ومفجرها فى المقام الأول سياسى بامتياز.
***
جلست إلى جانبى لنشاهد معا احتفالية الرياض المثيرة لكثير من الجدل. جاءت لحظة شعرت عندها بأن جليستى تمسح دمعة توقفت عند ركن العين فلم تنزل إلى الخد. نظرت إليها مستفسرا فأدارت الوجه حتى لا أرى ما فعلت بدمعة لم تجف تماما. لم أعد إلى استفسارى إلا بعد قليل من الوقت قضيناه نتفرج على استعراض ملابس وتسريحات شعر كل من ميلانيا وإيفانكا ترامب والمشاكسات بالأيدى بين ترامب وزوجته ونعلق على إعجاب الملياردير ترامب بحذاء الرئيس المصرى. أجابت ببعض الخجل والاعتذار عن دمعتها التى خرجت دون استئذان أو سابق انذار بأنها شعرت خلال متابعتها أعمال المؤتمر بأنها تشهد استهانة شنيعة وفظيعة ومخططة بذكائها كانسانة عربية ومسلمة، استهانة لم تتعرض لمثلها منذ اختارت السياسة مهنة وطريقا. مر أسبوع قبل أن يأتى صوتها عبر الهاتف عاليا، وإن بتهذيب واجب، لتطلب منى قراءة تغريدة دونالد ترامب لحظة وصوله إلى صقلية. قرأتها لى ثم قرأتها بنفسى من المصدر. الرجل يبلغ شعبه أنه عاد لتوه من رحلة ناجحة للغاية، عاد يحمل البلايين من الدولارات والملايين من الوظائف. لم يأت بكلمة واحدة عن الإرهاب ومكافحته، وكلاهما الهدف المعلن لرحلته ولتحشيد حكام أكثر من خمسين دولة ولإنفاق الملايين على الضيافة والهدايا والبلايين على أمريكا. الخلاصة إهانة لذكائها لم تقبلها فأدمعت عينها لربما طردت الشعور بالاهانة وغسلت أو طهرت ما خلفت.
***
كم دمعة سالت فى الأيام الماضية ولم تمح إساءات السياسة. كم بيت فى مصر الدموع فيه لا تجف والمآقى لا تنام. كم دمعة يجب أن تسيل قبل أن نبدأ العيش فى أمان وحرية وعدالة وسلام اجتماعى؟

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved