الإعلام المعقم: كل تلك الأوهام

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الثلاثاء 30 أغسطس 2016 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

الإعلام المصرى جزء من الأزمة لا الحل.

هذه حقيقة لا يصح إنكارها أو الادعاء بعكسها.

لقد تصدعت صورته وتقوضت الثقة فيه داخل مجتمعه قبل إقليمه وعالمه، كما لم يحدث فى أى فترة سابقة.

لا يمكن أن تتأكد أية صورة عن جهل مدقع ولا أية ثقة فى صراخ ينتهك أبسط القواعد المهنية والأخلاقية ويحجب أية فرصة لتبادل المعلومات والآراء بصورة طبيعية.

عندما تسد قنوات الحوار المفتوح يرتفع منسوب الصدام فى الظلام، فلا نعرف أين نحن بالضبط.. ولا إلى أين نحن ذاهبون؟

بقدر الانفتاح على الحوار بلا مصادرة تتأكد فرص بناء التوافقات الوطنية ويتماسك المجتمع على تصورات مشتركة لتجاوز أزماته المستحكمة بدلًا من أن تنفجر فى جنباته ويعود مرة بعد أخرى إلى المربعات القديمة، وربما إلى ما هو أسوأ.

حين تتناقض التعبئة الإعلامية مع الحقائق على الأرض فإن أثرها يلغى، كأى ادعاءات لا سند لها فى الواقع، ويتحول صراخها إلى عبء لا يطاق على الحركة العامة للمجتمع.

باسم التعبئة انتهكت قوانين وتقاليد وأعراف دون حساب أو عقاب، وكان ذلك من أسباب تراجع اعتبار الإعلام المصرى على أى مستوى سياسى أو أخلاقى.

فى فحش الانتهاك تاهت الثقة العامة بين الأقدام.

كأى شىء آخر ما زاد عن حده انقلب إلى ضده، والأثمان الباهظة سوف تدفع بنهاية المطاف.

لا يمكن الادعاء أن بوسع هذا النوع من الإعلام أن يساعد المجتمع القلق تحت وطأة الأزمة الاقتصادية المتصاعدة على شىء من التماسك الضرورى.

الناس تصدق الأسواق لا الدعايات، ما تعانيه من مصاعب تدبير احتياجات الحياة اليومية لا الحديث عن مؤامرات خفية.

ذلك ما يحدث الآن بالضبط والإشارات تومئ إلى الطرق المسدودة وأجراس الإنذار تدق فى المكان.

فهناك ضيق باد بالحوار فى صلب القضايا التى تشغل الرأى العام، وتراجع معلن فى البرامج السياسية لصالح برامج التسلية.

من حق كل محطة فضائية أن تخطط برامجها على النحو الذى يتفق مع شخصيتها ومصالح ملاكها، غير أنه عندما تتجه جميعها بتوقيت واحد إلى ذات الخيار فالمعنى أن ما هو حق بات وضعا إجباريا مفروضا.

باستثناءات محدودة للغاية تحاول أن تقاوم بقدر ما تستطيع فإن المنحى العام يتراوح ما بين إعلام تعبئة فقد اعتباره وإعلام تسلية استهلك طاقته.

التسلية والإمتاع من وظائف الإعلام التى لا غنى عنها بأى مكان فى العالم، غير أن الاستغراق فيها كأنه لا توجد وظائف أخرى للإعلام يحيل التسلية إلى إلهاء والإمتاع إلى خداع.

عندما تتراجع عن عمد وظائف أساسية، لا يعيش إعلام حديث بغيرها، كالإخبار بالحقيقة والبحث عما وراء الأحداث فإنه يفقد جانبًا كبيرًا من جمهوره الذى يريد أن يعرف ما الذى يجرى حوله ويؤثر فى حياته ومستقبله.

رغم التراجع الكبير فى مستويات التغطية السياسية والانفتاح على كل الحساسيات والخبرات، واختفاء شبه كامل لنخبة من مقدمى البرامج الأكفاء بالمعايير المهنية لأسباب تتعلق بخلفياتهم ومواقفهم، فإن هناك من يتصور أن ذلك لا يكفى لبسط الصوت الواحد.

أخطر ما يحدث الآن، والقصص شائعة ومعروفه، حيازة جهات فى الدولة بطريقة غير مباشرة ملكية محطات فضائية خاصة أو الشراكة فيها وتأسيس محطات أخرى بتصور أنها تضمن الهيمنة الإعلامية الكاملة.

أخطر النتائج المنتظر إطلاق رصاص الرحمة على تليفزيون الدولة فى «ماسبيرو»¡ الذى ولد عملاقا بالمعنى الحرفى من حيث قوة النفوذ والدور، وخرجت من عباءته أجيال من رواد العمل الإعلامى العربى.

اللافت فى خيار الهيمنة استناده على مبالغة زائدة عن دور الإعلام فى ثورتى «يناير ويونيو».

بالتعريف الثورة عمل شعبى لا عمل إعلاميًا.

يتوقف دور الإعلام عند التنوير العام بحقيقة ما يجرى، ومتابعة الحوادث وتحليلها، لكنه لا يصطنع غضبا شعبيا ولا يمنع آخر.

المبالغات الزائدة أوهام لا تتسق مع عالمها حيث تمنع ثورة المعلومات والاتصالات أية هيمنة مطلقة.

مصادرة التنوع الطبيعى فى الأفكار والرؤى أوهام إضافية تمنع رؤية الحقيقة فيما يجرى تحت سطح المجتمع وداخل القدور التى تغلى.

فضلا عن أن المصادرة تناقض الدستور وقيمه والعصر وحقائقه.

وفق الدستور فالإعلام مستقل وإدارة تليفزيون الدولة والصحف القومية تخضع لقواعد جديدة أكثر اتساقًا مع القيم الحديثة.

حتى الآن فإن قانون الإعلام الموحد، الذى توافقت عليه الجماعة الصحفية والإعلامية بكامل مكوناتها، معطل كأنه عمل مقصود لتمديد أزمة الإعلام.

بحقائق العصر وثورة اتصالاته فكرة الهيمنة نفسها أساس كل الأوهام.

فى عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية ارتفعت نداءات التحرر الوطنى، وارتبطت بها نزعات قوية لتأسيس جبهات وطنية تقود التحرير والتنمية للخروج من الاستعمار والتخلف.

ذلك لم يعد موجودًا، وأى استدعاء لإعلام التعبئة هو استدعاء للوهم نفسه.

أى إعلام ابن عصره، عندما تأخذ من عصر هيمنته دون مشروعه، وتغض البصر بالوقت نفسه عن حقائق عصرك، فالأزمة سوف تستحكم والهيمنة فاشلة لا محالة.

فالعصر يطرح بدائله على شبكات التواصل الاجتماعى وقضايا الرأى العام تنعكس عليه، كما أنه يوفر فرصًا لا نهائية لحرية الاختيار بـ«الريموت كنترول» بحثًا عن معلومات لا تصل وآراء لا تسمع.

عند إغلاق أبواب الحوار بمعناه الحقيقى والمعلومات بكامل صورتها من الطبيعى التحول إلى محطات كـ«الجزيرة» بعد طول هجران نظرًا لانحيازاتها غير المهنية أثناء (٣٠) يونيو وما بعدها لاستقصاء ماذا يقول الآخرون أو «العربية» للاستماع إلى مقاربات أخرى.

على نحو ما أخذت نسب مشاهدة المحطات القريبة من جماعة «الإخوان المسلمين» فى اسطنبول ولندن ترتفع، فلا يوجد شىء اسمه الفراغ، فى الإعلام كما فى السياسة والحياة.

كما بدأت محطات دولية ناطقة بالعربية تستأثر بمساحات إضافية أكبر مما كان لها من قبل كـ«البى بى سى» و«فرانس ٢٤» و«روسيا اليوم» و«سكاى نيوز» بعدما كانت الفضائيات المصرية تشغل الفضاء بلا تنازع تقريبًا.

أزمة الإعلام من أزمة المجال العام وتعطيل المسار السياسى وإطلاق يد الأمن فى الحياة العامة.

ذلك أفضى إلى إضرار بالغ بصورة نظام الحكم الحالى فى عالمه بما حجب أى تعاطف دولى تستحقه مصر فى أزمتها الاقتصادية الصعبة.

نظرية الهيمنة الإعلامية انكشاف جديد أمام أزمات تدق الأبواب بقسوة.

إن إعلامًا يحلق فى فضاء استهلاك الأوقات بالصراخ عن جهل أو التسلية عاجز تماما عن اكتساب احترام مجتمعه والتأثير فيه ودفعه للتماسك فى أوقات خطرة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved