فى حوكمة المنظومة الصحية

علاء غنام
علاء غنام

آخر تحديث: الخميس 30 أغسطس 2018 - 9:10 م بتوقيت القاهرة

أثارت قضية أخيرة خاصة بخريجى كليات العلوم الطبية والصحية الخاصة كثيرا من الجدل بين أطراف متعددة منها النقابات الطبية ووزارة الصحة وأصحاب تلك الكليات الخاصة وخريجى هذه الكليات حول طبيعة تسمية ووظيفة هؤلاء الخريجين، وهو ما يجعلنا نؤكد أننا فى حاجة فى ملفنا الصحى إلى إعادة النظر فى كثير من الأمور منها ضرورة ضبط المفاهيم وتحديد المصطلحات والتسميات وطبيعة الوظائف داخل الفريق الصحى بسبب فترة طويلة من العشوائية فى اتخاذ القرارات الاستراتيجية أدت إلى تداخل التخصصات الصحية والطبية وغياب آليات حوكمة المنظومة حوكمة رشيدة.
فما هى الحوكمة الصحية علميا؟
كلمة الحوكمة هى كلمة مشتقة من اللغة اللاتينية القديمة كفعل بمعنى يرشد ويقود بحكمة وحديثا بدأ استخدامها منذ عام 1932 فى الغرب فى مصطلح يخص حوكمة الشركات الكبرى عندما أرادوا تحسين كفاءتها بفصل الملكية عن الإدارة ولم تأخذ مفهوما واسعا إلا فى منتصف التسعينيات من القرن الماضى عندما تبنتها المؤسسات الدولية مثل البنك الدولى والأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات المعنية بالمجال الصحى كمنظمة الصحة العالمية، وهى كمفهوم يتضمن عمليات الحكم والتوجيه الذى تقوم به أى جهة لديها سلطات تتيح لها التحكم سواء فى مؤسسات حكومية أو غير حكومية صحية ولذا فهو مفهوم متعلق بصنع القرار الصحى بين أطراف متعددة تقوم بالاتفاق على القواعد الأساسية والاستراتيجية وتنظيم عمليات المساءلة والمحاسبة لمن يخالفها.
والحوكمة بطبيعة الحال ليست مجرد الإدارة فهى مفهوم أشمل وأوسع من مجرد الإدارة لأنها تتضمن النظم والعمليات التى تطبقها هذه النظم الصحية والتى تشكل توجهها الاستراتيجى، أما الإدارة فهى متعلقة بتنفيذ أهداف هذه النظم والعمليات والعمل اليومى.
ركائز الحوكمة الصحية.
تتمثل أهم هذه الركائز فى الشفافية وتداول المعلومات بدقة فعلى سبيل المثال فى هذا المجال أن النظام الصحى البريطانى NHS يلزم كل المستشفيات فى بريطانيا بنشر معدل الوفيات بين المرضى فى هذه المستشفيات على موقعه بشكل دورى لمعرفة مستوى أداء هذه المستشفيات وإمكانية تقييمها ومحاسبتها، والمحاسبة من المحاور المهمة أيضا فى ركائز الحوكمة وهى تتعلق بوضع آليات دقيقة وصارمة فيما يتعلق بأداء المؤسسات الصحية والأفراد داخلها بشكل دورى ثم التشاركية وهى من الركائز التى تضمن التمثيل العادل للمعنيين بالمنظومة الصحية بما فيهم المواطنين أصحاب المصلحة ومن المحاور الهامة أيضا توزيع المخاطر والمقصود بها إنشاء صندوق تأمينى عام يتحمل التكلفة المالية للعلاج إلى جانب التوزيع الجيد للموارد المالية والبشرية حسب الاحتياجات الجغرافية المختلفة ووضع آليات عادلة للدفع لمقدمى الخدمة وأطر واضحة للتعاقد معهم.
ونحن نعرف أننا إزاء مخاض صعب لإصلاح صحى شامل قد يمتد إلى سنوات وليس مجرد اﻻنشغال بقضايا شكلية وصراعات هامشية تربك الرأى العام كثيرا ثم تهدأ الأمور وتترك على حالها بلا تدقيق واضح وصريح.
فمثلا خريجو كليات العلوم الطبية والصحية ما هو مسمى عملهم الحقيقى والعلمى؟ وأيضا خريجو كليات الطب هل هم أطباء أم دكاترة.. إلخ، وما هو دور وزارة الصحة الآن ومستقبلا فى مثل هذه القضايا وما هو دور النقابات الطبية الحقيقى؟ وما هو الدور الغائب لوضع النقاط فوق الحروف وتوجيه دفة التفكير الصحى الاستراتيجى؟
وهل المجلس الأعلى للجامعات انتهى بالفعل من وضع تصور زمنى لتطوير التعليم الطبى وما هى هذه الخطط؟
تساؤﻻت عديدة يبدو أنها حسمت عالميا منذ زمن ولكننا ما نزال نختلف حولها بلا مبرر سوى غياب وجود عقل مركزى محترف فى ملف الصحة يشكل من أصحاب العلم والخبرة وممثلى أصحاب المصالح المختلفة المتضاربة. هذا العقل الاستراتيجى كما كررنا مرارا هو ضرورة إحياء وتأسيس مجلس أعلى للصحة يتضمن داخله لجان طبية عليا متخصصة والوظيفة الأساسية لهذا المجلس هى وضع التخطيط الاستراتيجى لمستقبل الصحة فى مصر والإشراف على تنفيذ تلك المخططات من قبل جميع الأجهزة التنفيذية الحكومية المعنية ولضمان حوكمة المنظومة حوكمة رشيدة عبر محاور الحوكمة المتمثلة فى فصل السلطات والشفافية واتساق صنع القرار الصحى مع المعايير الدولية والعلمية. وتحقيق المشاركة المجتمعية الحقيقية فى صنع القرار ومراقبة وتنظيم المصالح المتضاربة لإحداث درجة من التوافق بينها إلى جانب الاتساق والاستقرار لجميع جوانب المنظومة بعيدا عن الاستمرار الدائم فى مربع الأزمات التى تبرز دائما أو فى أغلب الأحوال.
وعن اللجان الطبية المتخصصة أو اللجنة الطبية العليا داخل المجلس الأعلى فهى ليست اختراعا جديدا للعجلة ولكنها كيانات ضرورية وموجودة فى أغلب البلدان الأوروبية وفى بريطانيا على وجه الخصوص تحت مسمى Medical high council ليقوم بدور الضمير المهنى والأخلاقى للمهنة ويراعى كل معايير المساءلة الطبية ودرجات التقاضى من خلاله بشكل مستقل ومنفصل عن جميع الكيانات الموجودة وله الشخصية الاعتبارية الكاملة، وأما نقابة الأطباء أو النقابات المهنية الأخرى فدورها الأساسى هو الدفاع عن مصالح أعضائها وتقديم بعض الخدمات الضرورية لهم.
***
وفى هذا السياق يجب أن نشير فى عجالة إلى أن خريج كلية الطب فى أغلب بلدان العالم يطلق عليه (طبيب دكتور) Medical Doctor وأما خريج كلية العلوم الصحية أو الطبية سواء كانت كلية خاصة أو عامة فليس بطبيب وﻻ دكتور.
كما أن الحصول على درجة الدكتوراه وهى درجة علمية رفيعة لأى تخصص تمنح صاحبها مسمى أستاذ فى نهاية السلم الأكاديمى فى مسار متصاعد من مدرس مساعد إلى مدرس إلى أستاذ مساعد إلى أستاذ لأنه معلم ويعلم ويبحث ويقدم أبحاثا أكاديمية وتطبيقية ليترقى علميا وأكاديميا.
فهل نحن فى حاجة إلى تأكيد كل هذه البديهيات التى استقرت عالميا! ﻻ أظن ولكن ربما غياب وجود المجلس الأعلى للصحة واللجان الطبية المتخصصة هى الفريضة الغائبة التى ستكون بحكم العلم والخبرة قادرة على حسم كل هذه العلاقات والتى ستضمن بناء منظومة صحية مستقرة تتمتع بالحكم الرشيد (الحوكمة على الأشياء) وهذا ما أظن أننا نحتاجه اليوم وليس غدا ليظل دور وزارة الصحة كما خطط لها فى استراتيجية الإصلاح الصحى هو المنظم (Regulator) والمنفذ لتوجهات المجلس الأعلى الاستراتيجية التى يشارك فيها جميع الأطراف المعنية بما فيها المواطنين أنفسهم أصحاب المصلحة فى النظام الصحى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved