عن احترام الشعب

إبراهيم الهضيبى
إبراهيم الهضيبى

آخر تحديث: الجمعة 30 سبتمبر 2011 - 8:50 ص بتوقيت القاهرة

النخبة والنظام السياسى يتأثر كلاهما بالآخر سلبا وإيجابا، وإذا كان نظام مبارك قد أثر على معارضته فأصابها بالفقر الديمقراطى وعدم احترام الشعب ولا القانون، فإن هذه النخبة ــ بعد أن أعادت إنتاج نفسها كنخبة الثورة ــ قد أصابت السلطة المؤقتة بذات الأمراض، فصرنا مرة أخرى أمام نخبة ونظام لا يحترم أيهما القانون ولا الشعب ولا يعتبره صاحب السيادة.

 

تجلى عدم احترام النخبة للشعب والقانون فى مواقف عدة، منها القول بعدم جاهزية المصريين للديمقراطية واحتياجهم لفترة زمنية تستغل لزيادة الوعى قبل الدخول فى العملية الديمقراطية، ثم إصرار البعض على وضع الدستور قبل الانتخابات البرلمانية، بالمخالفة لنتائج الاستفتاء الدستورى التى أسندت مهمة تشكيل الجمعية التأسيسية إلى البرلمان المنتخب، ثم لما لم تجد هذه المطالبات صدى اقترحوا بعض المبادئ لتكون حاكمة لعمل الجمعية التأسيسية للدستور وأرادوا فرضها بإرادة فوقية فى إعلان دستورى بدون استفتاء الشعب عليها، وإذا كانت بعض مواقف السلطة المؤقتة قد أشارت مبكرا لعدم احترامها لسيادة القانون، فإن تزايد التداخل بين النخبة والسلطة أثر على الثانية فصار احترامها لإرادة الشعب إلى تناقص.

 

وتقديرى أن إشارات عدم احترام السلطة لسيادة الشعب بدأت مبكرا بإحالة المدنيين للمحاكمات العسكرية، وهى محاكمات استثنائية لا توفر الضمانات القانونية والدستورية المحققة للعدالة، وتمثل خروجا صريحا على احترام سلطة القضاء المدنى، والقول بضرورة هذا الاجراء لمواجهة جرائم البلطجة مردود من جهتين، أولاهما أن القضاء المدنى لديه من نصوص القانون ما يكفى للتصدى لتلك الجرائم، وثانيتهما أن القبول بإجراءات استثنائية للتعامل مع جرائم بعينها يمثل انتهاكا للعدالة كونه يعنى إدانة المتهمين قبل محاكمتهم، والتذرع ببطء الإجراءات فى القضاء الطبيعى مردود بإمكانية تفريغ دوائر قضائية بعينها لنظر هذه القضايا كما جرى فى قضية قتل المتظاهرين المتهم فيها الرئيس المخلوع.

 

بيد أن عدم احترام الشعب لم يقتصر على هذا الإجراء، إذ تجلى أيضا فى عدم وفاء السلطة المؤقتة بالتزامها بتسليم البلاد لسلطة مدنية منتخبة خلال ستة أشهر من توليها الإدارة فى فبراير، وهى جريمة اشترك فيها بعض الساسة الذين طالبوا بتأجيل الانتخابات لعدم كفاية استعدادهم لها، ولايزال بعضهم ييسر على الحكام المؤقتين مهمة إطالة أمد بقائهم بإصراره على الانتهاء من تشكيل الجمعية التأسيسية ووضع الدستور قبل إجراء الانتخابات الرئاسية، وهو ما جعل بعض الأطراف فى السلطة تصرح بأن الانتخابات الرئاسية ستجرى فى نوفمبر من العام المقبل، الأمر الذى يمثل مخالفة للتصريحات السابقة التى أكدت إجراء الانتخابات البرلمانية فى سبتمبر والرئاسية فى ديسمبر من العام الحالى.

 

وخلال الأشهر الماضية أصدرت السلطة المؤقتة عدة قوانين تمثل انتهاكا صريحا لسيادة الشعب واحترام إرادته، منها على سبيل المثال قانون تجريم الإضراب، والذى صدر فجأة ولم تدر حوله نقاشات مجتمعية، فخرج بالتالى معبرا عن فئة محدودة من أصحاب الأعمال، ومجحفا بالفئات الكادحة من العاملين والموظفين، الذين لا يمتلكون وسائل ضغط غير الاعتصامات لتحصيل حقوقهم وتحقيق مطالبهم، خاصة فى ظل انعدام شبه كامل لآليات التفاوض الأخرى.

 

وعلى صعيد السياسية الخارجية، تجلى عدم احترام السلطة للشعب فى الموقف المتهاون من قتل ستة جنود مصريين على يد الإسرائيليين، إذ بدلا من اتخاذ موقف صارم تجاه هذا الاعتداء على السيادة والدماء المصرية والنزول على رغبة الجماهير بقطع العلاقات الدبلوماسية بإسرائيل، أو على أقل تقدير استدعاء السفير المصرى فى تل أبيب، قامت السلطة ببناء جدار يحمى مبنى السفارة الإسرائيلية فى القاهرة من غضب المتظاهرين المصريين، واكتفت ببيان صدر عن الحكومة يؤكد  عدم التفريط فى دماء الشهداء، مع عدم الحديث عن أية آليات لتحقيق هذا المقصد.

 

ثم تجلى هذا الاستهتار بسيادة القانون فى تصريحات بعض القائمين على الحكم التى أكدوا خلالها استمرار حالة الطوارئ حتى منتصف العام المقبل، فى مخالفة صريحة لنتائج استفتاء مارس الماضى، الذى قصر حق الحكام والبرلمانيين مجتمعين فى إعلان حالة الطوارئ على مدة زمنية لا تتجاوز بحال ستة أشهر لا يجوز مدها إلا بعد استفتاء الشعب وموافقته على ذلك، وهذه الأشهر الستة انتهت يوم 20 سبتمبر، فانتهت معها حالة الطوارئ «وجوبا وصراحة وحسما وجزما»، وصار الحديث عن استمرارها «تحايلا على حكم تشريعى ملزم وواجب النفاذ» بتعبير المستشار طارق البشرى الذى رأس لجنة صياغة التعديلات.

 

أتصور أن مساوئ عرش مبارك فاقت مساوئه الشخصية، بل إن الأخيرة لم تكن لتؤثر على عموم المصريين لولا الأولى، إذ بها استعلت السلطة على الشعب وتحدت إرادته، ووضعت نفسها فى مواجهته، وقد خلع الشعب مبارك وبقى عرشه لسلطة جلست عليه فسلكت فيما يبدو ذات الدرب، وتناست أنها لم تكن لتجلس على العرش لولا أن الشعب استعاد إرادته، فصار تحديها معركة خاسرة، إذ لم يمنع قانون تجريم الإضراب ــ الصادر بالمخالفة للإرادة الشعبية ــ من استمرار وتصاعد موجة الاعتصامات التى تحقق المزيد من المكاسب وتفرض على السلطة التفاوض حول مطالبها من موقف الند لا الاستعلاء، ولم يمنع بناء السور الحامى للسفارة الإسرائيلية الشعب من تنفيذ مراده بطرد السفير الإسرائيلى شعبيا رغم أنف السلطة التى لم يرضه موقفها المتخاذل، ولن يكون تحدى الإرادة الشعبية والقانون بإعلان استمرار حالة الطوارئ أكثر قدرة على كسر إرادة المصريين من الإجراءات السابقة، بل سيزيد ــ فى تقديرى ــ حالة الاحتقان الشعبى تجاه السلطة المؤقتة بما يزيد من احتمالات مواجهات ليست فى صالح الوطن وليست بكل تأكيد فى مصلحتها.

 

وأتصور أيضا أن استمرار بعض النخبة فى القبول بهذه الممارسات، واستعداد البعض الآخر للتغاضى عنها مقابل تنازلات من قبل السلطة تمثل هى أيضا خرقا لسيادة الشعب والقانون (كتأجيل الانتخابات، أو إقرار المبادئ الحاكمة للدستور فى إعلان دستورى، أو تعيين لجنة لصياغة الدستور الدائم قبل الانتخابات البرلمانية) إنما يؤكد أن هذه النخبة ليست نخبة الثورة بقدر ما هى نخبة نظام مبارك التى أضفت عليه الشرعية بقبولها بمعارضته من غير أن تهدد بقاءه، وأنها ليست أفضل حالا من حكام مصر المخلوعين أو المؤقتين، وأن استمرار الثورة وتحقيقها لمقاصدها يتطلب تهميش هؤلاء جميعا وصعود نخبة جديدة تستند إلى الشرعية الديمقراطية، وتحترم الشارع وتعبر بصدق عن إرادته.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved