سلاح التلميذ

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 30 نوفمبر 2017 - 10:25 م بتوقيت القاهرة

كنت أنوي أن أكتب عن صورتين تنطقان بهول فاجعة يوم الجمعة الماضي في مسجد قرية الروضة حتى جاءت صورة أخرى في سياق مختلف فخطفت قلمي في اتجاه آخر تماما . أما الصورتان اللتان تمكنتا مني منذ طالعتهما فإحداهما كانت لطفل ملقي على الأرض مضرجا في دمائه.. سالت من عين الطفل دمعة ثم قطعت عليها طريقها زخات الرصاص فتجمدت علي وجنته. يا الله! إن ألف صفحة تحكي عن الرعب الذي تملك الصغير قبل أن تصعد روحه إلي بارئها لن تعدل ما تفصح عنه هذه الدمعة المتحجرة .. وإن ألف إدانة لفوج الوحوش الضارية التي انطلقت من كهوفها واجترأت على قتل طفل يُصَلِّي- هذه الإدانات تتضاءل أمام دمعة الطفل الوادعة. أما الصورة الأخرى فكانت لعدد من أهالي الشهداء وقد راحوا يبحثون وسط الأحذية المتناثرة على باب المسجد عن بعض ما يخص ذويهم، يفتشون في مسرح الجرم العظيم عن آخر ما تبقى من أحبتهم.. عن أحذية خلعها هؤلاء قبل أن يساووا صفوفهم ثم يسيروا حفاة إلي روضة من رياض الجنة، وشتان بين روضة وروضة. الصورتان السابقتان تختزلان تفاصيل الجمعة الدامية ببساطة لا أبلغ منها فأبلغ التأثير أبسطه، والآن نأتي إلى الصورة الثالثة ..هذه الصورة الجهنمية الخطيرة التي فجرت براكين غضب وخوف ودهشة بلا مدى.

***

مثل نبات المشروم الذي يتكاثر بسرعة خرافية غزت مواقع التواصل الاجتماعي صورة قيل إنها تجسد محاكاة جرت لفاجعة مسجد الروضة، الممثلون هم تلاميذ صغار في إحدى مدارس الدقهلية .. تقمص بعضهم دور المصلين الذين سقطوا صرعى رصاصات الغدر - فيما لعب بعضهم الآخر دور المهاجمين فارتدوا الزِّي الأسود وأخفوا وجوههم خلف أقنعة وتقاسموا مسؤولية الهجوم، فهذا حمل في يده مدفعا رشاشا، وذاك سار بين الجثث يتفقد حصيلتها، وثالث رفع أعلام إسرائيل وإيران وتركيا وقطر في إشارة لضلوعهم في الجريمة. بالبحث عن مزيد من التفاصيل حول هذه الصورة الصاعقة أتضح أن نموذج المحاكاة نفذته أكثر من مدرسة كما جاء في إحدى القنوات الفضائية، وتبين أنه تم بث فيديو عن هذه المحاكاة ما أتاح انتشارها وسمح بتوسيع زاوية الرؤية أكثر، وهكذا شاهدنا من يؤدي دور المؤذن قبل اقتحام المسجد وبعده، وشاهدنا المدرسين يتابعون التلاميذ والفخر يغشاهم فيما كانت تمسك مدرسة بلافتة مكتوب عليها " مصر أجمل وأحب الأشياء". هذا المشهد التمثيلي يدخل في نطاق اللامعقول بامتياز، وينافس مسرح العبث الذي ازدهر في خمسينيات القرن الماضي، ويصيب من يتأمل في نتائجه الكارثية برعب مقيم. بينما نحن نسأل كيف نعالج الآثار النفسية لأطفال فقدوا الجد أو الأب أو الأخ أو ثلاثتهم في جريمة مسجد الروضة إذا ببعض مدرسينا يقررون أن يعمموا تلك الآثار وينقلونها لأطفال لا ناقة لهم في الأمر ولا جمل. آخذ عن والدي رحمة الله عليه جملته المتكررة أمام كل فعل شاذ " يا مثبت العقل والدين " وأدعو لنفسي ولكم بالثبات.

***

لم يسمع هؤلاء المدرسون أن الأطفال بطبيعتهم يميلون لمحاكاة الأكبر منهم سنا، وأننا حين ندربهم على حمل السلاح ونطبعهم مع مشاهد الدم المُراق فإننا نحبب العنف إليهم ونجعل لهم من القتل لعبة. لم يمروا بلافتة "للكبار فقط" التي تحمي عيون الأطفال وآذانهم من مشاهد العنف- بل هم جعلوا تلك المشاهد حصرا "للصغار فقط" و " بالصغار فقط" . لم يتأكدوا بعد إن كان تلاميذهم يحسنون كتابة أسمائهم أم لا - ومع ذلك زجوا بهؤلاء التلاميذ في دهاليز السياسة وتلاعبوا بأفكارهم في لعبة المجزرة. هم لم يهتموا أساسا بأن يعلموا الصغار أن مصر وطن وليست "شيئا" كما جاء في اللافتة التي رفعتها إحدى المدرسات - وشتان بين العلاقة مع الأوطان والعلاقة مع الأشياء. تدهشنا هذه السرعة الفائقة التي تم بها تجهيز لوازم المحاكاة وتلقين الأطفال تفاصيل الجريمة وتدريبهم عليها وتصويرها ثم رفعها على وسائل التواصل الاجتماعي، ولو توفرت همة مماثلة في العناية بالعملية التعليمية لحُلَت أكثر مشاكلنا تعقيدا. يدهشنا أيضا أن تفكر أكثر من مدرسة التفكير نفسه وتنفذ نموذج المحاكاة ذاته، وأشك أن المحاكاة تقليد شائع في مدارسنا أصلا ناهيك عن أن تكون هذه المحاكاة لموقف غاية في التعقيد والغموض. أما أكثر ما يدهشنا فهو رد أحد المسؤولين حين فاجأته غضبة الرأي العام فلم يجد ما يقول إلا أن المدرس المسؤول عن النشاط " لم يحصل على إذن " بتنفيذ المحاكاة ، فإن كان المسؤول لا يدري مبعث غضب الناس فالمصيبة أعظم.

***

نحن ندين بالاعتذار لأرواح طاهرة أُزهقت غدرا وغيلة ، ندين بالاعتذار لأسباب كثيرة منها أن بيننا من اتخذ فجيعة الروضة نموذجا للمحاكاة فيما الجرح مفتوح، ومشاعر الحزن فائرة، وآثار الدماء تلطخ جدران المسجد وباحته ومنبره، ندين لها بالاعتذار لأن بيننا من يعرض مزيدا من أبناء قرية الروضة وكل القرى والنجوع للمصير نفسه فيُعلِم صغارنا أفعالا من مثل : كفّر و قتل وحرق بدلا من أن يعلمهم أفعالا على شاكلة : زرع وسقي وحصد كنا تربينا عليها في أيام زمان. التعليم قضية أمن قومي بالمعنى الحرفي للكلمة فأي تهديد لهذا الأمن أكبر من أن نضع في أيادي الصغار مدافع الكلاشينكوف عوضا عن كتاب سلاح التلميذ ؟ .

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved