بعض الملاحظات على فجيعة مسجد الروضة

عبد العظيم حماد
عبد العظيم حماد

آخر تحديث: الخميس 30 نوفمبر 2017 - 10:20 م بتوقيت القاهرة

على كثرة، وقسوة ما وقع فى مصر من عمليات إرهابية أخيرا، ومنذ عشرات السنين، فسوف تبقى مذبحة المصلين فى مسجد الروضة قرب مدينة العريش يوم الجمعة الماضى هى الأشد إيلاما للوجدان الشعبى، والأكثر عمقا فى الذاكرة الوطنية، والأقوى إلحاحا على هذه الذاكرة، ولا يماثلها فى ذلك إلا هجمات 11 سبتمبر عام 2001 على مدينتى نيويورك وواشنطن بالنسبة للأمريكيين.

فقد تواترت العمليات الإرهابية ضد الولايات المتحدة فى الداخل والخارج كثيرا قبل، وبعد هجمات 11 سبتمبر، ولكن هذه الهجمات تبقى، وستبقى حالة خاصة فى الوجدان والذاكرة الأمريكيين، بشمولها، وترويعها، ومفاجآتها، بداية باختيار الأهداف، والوسائل، وليس انتهاء بمغافلتها لعشرات وكالات المخابرات، وجمع المعلومات الأمريكية، وكذلك بالهيستيريا التى عصفت بالولايات المتحدة والعالم بعدها، بحثا عن الحقائق وسط سيول من الشائعات، والتضليل، وروايات الإثبات، وقصص النفى، ونظريات المؤامرة.
فى المقابل كانت فجيعة مسجد الروضة مفاجئة أيضا فى مغافلة الأجهزة المعنية، وفى اختيار المكان والزمان، وفى الشمول والترويع، وفى هيستيريا الشائعات والاتهامات، ونظريات المؤامرة الداخلية المزعومة، ولا أقول الخارجية، لأن هذه لها حديث آخر سوف يلى فى هذا المقال.
ولاستكمال المقارنة فإن هجمات سبتمبر على نيويورك وواشنطن بثت فى أجهزة الأمن الأمريكية روحا جديدة، بحيث يمكن القول إن مثل هذه الهجمات باتت غير قابلة للتكرار بالشمول والترويع نفسيهما، دون أن ينفى ذلك امكانية وقوع عمليات إرهابية محدودة النطاق، أو قيام من يسمون بالذئاب المنفردة باعتداءات هنا وهناك ضد أهداف أمريكية داخليا وخارجيا، وقد وقع بالفعل كثير من هذه الأعمال بعد 11 سبتمبر.

لهذا يتوجب أن تكون فجيعة يوم الجمعة الماضى خاتمة لما سبقها من سجل أسود من الفشل فى مواجهة الإرهاب، وبداية للمواجهة القائمة على الجمع المدقق للمعلومات، والتحليل الذكى والتخطيط، والكفاءة، للظاهرة الإرهابية من جميع جوانبها، إن لم يكن لتحقيق مائة فى المائة من النتائج المرجوة فورا، فليكن لبذل مائة فى المائة من الجهد دون لحظة تأخير.

هنا نتذكر أن لدينا مجلسا أعلى لمكافحة الإرهاب، تأسس بقرار جمهورى، ويرأسه رئيس الجمهورية بنفسه، وكنا قد استبشرنا ــ كغيرنا ــ بهذا المجلس منذ طرحت فكرة إنشائه، وتعجبنا ــ مع غيرنا أيضا ــ من طول الفترة ما بين طرح الفكرة، وما بين صدور القرار الجمهورى بإنشاء المجلس وتشكيله، غير أن العجب زاد من تأخر انعقاده فى أولى جلساته، ثم ها هو العجب يتحول إلى دهشة من توقف جلسات هذا المجلس الأعلى لمكافحة الإرهاب بعد تلك الجلسة اليتيمة، التى لم تظهر لها هى نفسها أى نتائج.

كان المتوقع أن يشكل المجلس لجانا متخصصة على أعلى مستويات الخبرة والتخصص لبحث الجوانب المتعددة للظاهرة الإرهابية، سياسيا واجتماعيا، وثقافيا، ودينيا، واقتصاديا، وعسكريا، ولاستقصاء أبعادها الإقليمية والدولية، للوصول إلى أنجح وسائل المكافحة فى كل جانب من تلك الجوانب، ثم ترفع التوصيات إلى المستوى الأعلى فى المجلس ذاته، لصياغتها فى استراتيجية متكاملة، يقرها رئيس الجمهورية، وتنفذها أجهزة الدولة كل فى نطاق اختصاصه، مع تحديد أدوار بقية مؤسسات المجتمع فى حوار وطنى صريح وشجاع.

لكن شيئا من ذلك لم يحدث، دون سبب مقنع معلن، ولذا فهنا علامة استفهام ضخمة، ولا يبقى سوى التخمين للإجابة، وهذا ما لا نريد أن ننزلق إليه، لأن الظن لا يغنى من الحق شيئا، ومع ذلك فالمؤكد أن البيروقراطية والسلطوية فى مصر دأبتا على أن ترفضا ــ بإباء وشمم ــ الحد من حريتهما فى التصرف، ولو كان ذلك بداعى البحث العلمى، والتخطيط الاستراتيجى، فضلا عن نفورهما الفطرى من مبدأ المشاركة، وإتاحة المعلومات، لوجود ما يراد إخفاؤه دائما.

****************
بمنطق الأشياء يستوجب بحث الأبعاد الإقليمية والدولية للظاهرة الإرهابية فى مصر التركيز على دور إسرائيلى محتمل، خاصة فى سيناء دون أن يعنى ذلك بحال من الأحوال نفى المسئولية المباشرة للتنظيمات الإسلامية المتطرفة عن هذه الجريمة، وغيرها، ودون أن يفهم من ذلك من قريب أو بعيد إنكار وجود ظاهرة التطرف والعنف والإرهاب ذات الجذور الإسلامية، والتى تزداد توحشا فى مصر وفى المنطقة وفى العالم، فليس معقولا ــ إلا للبلهاء أو السفهاء أو المغرضين ــ أن إسرائيل نظيفة اليد تماما ونهائيا مما يحدث هناك، وأن موقفها الوحيد هو التعاطف مع الدولة المصرية، وسماحها لنا بزيادة قواتنا فى سيناء كما ونوعا بأكثر ما حددته معاهدة السلام، وتزويدنا ببعض معلوماتها عن الجماعات الإرهابية، كما يقال لنا.. لأن إسرائيل ــ مثلها مثل كل دول العالم المتقدم ــ لا تعرف منهج البعد الواحد فى الفهم والتحليل والعمل.

ومن الأمثلة على ذلك بيعها أسلحة لإيران فى حربها ضد العراق، رغم رفضها المطلق للنظام الإيرانى، والعمل ضده فى جبهات أخرى، وذلك فى اطار ما عرف باسم صفقة إيران ــ كونترا جيت، وكانت إسرائيل هذه هى التى تدبر انفجارات ضد أهداف يهودية فى مصر وسوريا والعراق والجزائر والمغرب لإجبار يهود تلك البلاد على الهجرة إليها، ومن قبل ثبت تعاون الصهيونية العالمية والوكالة اليهودية فى فلسطين (فى مناسبات بعينها) مع الألمان فى أثناء الحرب العالمية الثانية لدفع يهود شرق أوروبا إلى الهجرة إلى أرض المعاد.

أما المصلحة الإسرائيلية السياسية من وراء ذلك الدور المزدوج (المفترض) فهى أولا مزيد من الاستنزاف والاضعاف لمصر ولمكانتها الإقليمية، وثانيا استثمار الوضع الخاص لسيناء بما يحقق الاستراتيجية الإسرائيلية لتسوية القضية الفلسطينية المعروفة باسم الوطن البديل، وإنجاز مشروع إسرائيل الكبرى، وضمان يهودية دولتها إلى الأبد، وليس تصريح وزيرة المساواة الاجتماعية الإسرائيلية جيلا جملئيل أخيرا بأن سيناء هى أنسب مكان لتوطين الفلسطينيين إلا الأحدث فى سلسلة مطولة من التصريحات، والدراسات، والمقترحات الرسمية حول هذا الحل، أما نفى المتحدث الرسمى الإسرائيلى أن يكون تصريح الوزيرة تعبيرا عن الموقف الرسمى للحكومة، فليس أكثر من «شىء لزوم الشىء».

أعرف أن بعض هواة الجدل سوف يطالبون بأدلة مادية على التورط الإسرائيلى فى الإرهاب فى سيناء، ولكن أمثال هؤلاء كانوا يستبعدون أيضا إقدام إسرائيل على بيع أسلحة لإيران، حتى ظهرت الأدلة المادية فى سياق مختلف، ولأسباب أخرى، وأعرف أن كثيرين ممن سئموا تفسير كل خيباتنا بالمؤامرة الأجنبية ــ وكاتب هذه السطور من هذا الفريق بالمناسبة ــ سوف يعتبرون الحديث عن دور إسرائيلى محتمل فى تأجيج الإرهاب فى سيناء محاولة لتشتيت الانتباه عن أوجه القصور فى الأداء المصرى، ولكن أليس الجمع بين انتقاد أوجه القصور، وبين الانتباه إلى دور إسرائيلى محتمل هو الأكثر منطقية؟!

لعلى لا أجد إثباتا لوجاهة هذا السؤال الأخير أفضل من العودة إلى سياحة الأستاذ الكبير الراحل محمد حسنين هيكل فى الوثائق الإسرائيلية، كما نشرها فى مجلة «الكتب ــ وجهات نظر» عدد نوفمبر سنة 2000 لأنقل عنه هذه الفقرة من حديث دافيد بن جوريون رئيس الوزراء المؤسس لدولة إسرائيل إلى البروفسور اليهودى الألمانى ديفيد برجمان، لإقناع الرجل برعاية برنامج التسلح النووى الإسرائيلى، وكان بيرجمان مترددا لأسباب أخلاقية، قال بن جوريون: «إن إسرائيل لا تنوى استخدام هذا السلاح، إلا أنه يريح بالها من أى مفاجآت محتملة، حتى تصل بالعرب إلى حيث يسقطون من الإعياء فى حرب استنزاف متواصلة ونشيطة، وسوف يتولى سقوطهم من الإعياء تحييد معظم أسباب قوتهم المالية أو السياسية أو المعنوية، لأنهم فى حالة السقوط من الإعياء سوف يغلطون مع الجميع، ويحملون المسئولية إلى كل الأطراف، ويجنبون أنفسهم أى نصيب منها، وهذا يكفل أن لايكون سقوطهم من الإعياء لمجرد الإرهاق المادى، ولكنه فى هذه الحالة الإرهاق المعنوى، وهو أقرب وسيلة لفقدان الثقة بالنفس، وذلك أفضل الأوضاع بالنسبة لنا، حرب استنزاف متواصلة ونشيطة ــ هذا هو الحل، وهذا هو النوع المطلوب من الحرب».

وبعد: أليس ما يحدث فى سيناء هو حرب استنزاف متواصلة ونشيطة؟ ألسنا نقترب من الإرهاق المعنوى؟! فإذا كان العرب ــ والمصريون من بينهم ــ هم الذين يشنون هذه الحرب على أنفسهم، بتطرف وتخلف وجنون بعض مسلميهم، وباستبداد وفساد وعقم نظمهم الحاكمة.. فهل ستكتفى إسرائيل بالمشاهدة، ولا تصب بعض الزيت على النيران المتأججة، أو لا توجه ألسنة اللهب إلى جهات بعينها؟! 

أخيرا ندعو الله أن تكون فجيعة مسجد الروضة آخر أحزاننا.. وندعو من قلوبنا المثقلة بالحزن للشهداء بالرحمة، ولذويهم بالصبر وبالعزاء المادى والمعنوى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved