الحق فى الصحة: من فرشوط إلى سالزبورج

علاء غنام
علاء غنام

آخر تحديث: الأحد 30 ديسمبر 2012 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

رسمت جريدة يومية مشهدا معبرا عن وضع الحق فى الصحة فى مصر بتقديم وصف دقيق لعبور طفل صغير بالصعيد لمستنقع من مياه الصرف الصحى فى فرشوط بمحافظة  قنا بأنفاس متهدجة، ويدين رقيقتين على أنفه الصغير، وهو يقفز فوق قطع الأحجار التى ألقيت للمرور أمام مقر علاج الأطفال فى البناية رقم 17 للفحص الطبى. فليحتفظ القراء بهذه الصورة فى أذهانهم وهم يمضون عبر المقال.

 

من المُسلم به أن الصحة من أمور اهتماماتنا اليومية بغض النظر عن أعمارنا أو أوضاعنا الاجتماعية والاقتصادية. ومع ذلك فإن مفهوم الحق فى الصحة يظل مفهوما غير واضح وغامضا على الرغم من استقرار أبعاده الحقوقية بموجب القوانين الدولية لحقوق الإنسان والدساتير فى بعض بلدان العالم التى نصت عليه بتفصيل وجلاء.

 

•••

فى هذا السياق تلقيت دعوة للسفر لتدارس مفاهيم الحق فى الصحة (الصحيح منها والخاطئ) وفقا للمعايير الدولية لحقوق الإنسان، ومراجعة الدروس المستفادة لآليات تفعيل الحق فى البلدان المختلفة كل وفقا لظروفه إضافة إلى لقاء الخبراء من أركان المعمورة فى نفس المجال فى رحاب سالزبورج، حيث الخضرة ممتدة على مدى الأفق، وبينها البرك الطبيعية والقصور التاريخية العتيقة، والشوارع النظيفة التى تغسلها - بهدوء- زخات المطر وموسيقى موتسارت فى كل الأركان تشجى وتُمتع الروح حيث عاش وسكن وأبدع.

 

وفى مداخلة أثارت انتباهى قال خبير من أمريكا اللاتينية أن العالم اليوم ينفق 6.5 تريليون دولار على الرعاية الصحية من 70 تريليون دولار هى قيمة الناتج المحلى العالمى. ما جعلنى أتساءل عن العائد المتحقق من وراء ذلك؟ وكيف نتأكد من تنفيذ الحق فى الصحة عالميا؟ وقد أضاف لهموم الحضور أن هناك مليارى فرد عبر العالم ــ من إجمالى 8 مليارات إنسان هم سكان المعمورة ــ ما زالوا يعيشون دون اتاحة الرعاية الصحية الاساسية والدواء! وأن حكومات العالم فى ظل الأوضاع الحالية للأزمة الاقتصادية العالمية سوف تفشل حتما فى تحقيق أهداف الألفية الثالثة للتنمية فيما يتعلق بالقضاء على فيروس نقص المناعة المكتسبة البشرى والإيدز، وما يتعلق بالصحة الإنجابية والفقر وتقليل عدم المساواة النوعى واستدامة البيئة ما يدعو إلى مزيد من الإحباط!

 

•••

خمسة أيام فى سالزبورج الجميلة فى حضور أكثر من 70 مشاركا من 22 دولة لبحث كيف تساهم مقاربة الحق فى الصحة فى تدعيم واستدامة وانصاف واتاحة العلاج فى النظم الصحية جعلتنى أكثر يقينا من أنه حق شامل تكفله القوانين الدولية يمتد إلى أبعد من مجرد توفير واتاحة للخدمات الصحية بما يتضمن مدى واسع من المحددات الأساسية الاجتماعية للصحة مثل (مياه الشرب النقية، والصرف الصحى والتعليم والغذاء المتوازن والسكن الآدمى، والمعرفة الضرورية) ما جعلنى أدرك عبثية تحرك الطفل الصغير فوق مياه الصرف الصحى لتلقى العلاج فى وحدات صحية قائمة ــ نظريا ــ بعملها اليومى فى ظل مخصصات مالية محدودة وأجور متدنية لفريقها الصحى.

 

لم يشغلنى حوار الخبراء المنمق الذى تناول كيفية عمل النظم الصحية على تحقيق الحق فى الصحة، وكيفية استخدام المشاركة لتدعيم النظم الصحية هذه ــ لم يشغلنى عن الطفل الصغير فى فرشوط الذى يعبر برك الصرف الصحى يوميا، وما تأكد لدى أن الرعاية الصحية والمحددات الاجتماعية للصحة هى التزام على الدول مهما كانت الظروف إذ يجب أن تكون متوافرة ومتاحة ومقبولة وذات جودة فى أنصاف ودون تمييز.

 

ورغم تعدد رؤى الخبراء حول مفهوم الانصاف فإن مشهد طفل الصعيد جعلنى أقرر وبشجاعة أن تمويل تلك النظم يجب أن يتفق وقاعدة المساواة والعدالة الاجتماعية بما يعنى أن يدفع كل شخص لتمويل النظام حسب قدرته وأن يحصل من الرعاية على ما يحتاجه والاحتياج الذى ما زال مجالا واسعا للجدل ــ أيضا ــ لأنه قد لا يضع فى الاعتبار ما اذا كانت الاحتياجات مسئولية شخصية بسبب السلوك الشخصى غير الصحى (التدخين مثلا) أو مسئولية مجتمعية بسبب غياب المحددات الاجتماعية الأساسية للصحة! فالسلوك الشخصى يلعب دورا مهما لكنه يفقد تأثيره إلى حد كبير فى غياب تلك المحددات التى يجب توفيرها أولا.

 

•••

لكن هل يكفى ما حملناه وتحاورنا من حوله؟ لا أظن ذلك فما زالت هناك الفجوة بين المعرفة والفعل وإرادة التغيير الثورى! تلك الفجوة هى حجر الزاوية لوضع الأفكار موضع التنفيذ إذ كيف نجعل الرعاية الصحية أفضل فى مصر؟ وما أهمية المشاركة متعددة الأطراف فى مواجهه التحديات الكبرى التى تستلزم أكثر من زاوية للنظر لترجيح النجاح؟ وهل نتعلم الدرس البعيد عن الاستقطاب المقيت وضيق الأفق المتعصب للرؤية الأحادية؟

 

حتى لا يستمر الطفل البريء فى القفز فوق مياه الصرف الصحى الآسنة لتلقى العلاج الفقير فى الوحدة الصحية البائسة، وحتى لا تستمر القطارات الطائشة فى تحطيم الباصات القديمة الحمقاء وداخلها أطفال أبرياء بلا رحمة من السياسيين الذين يتصفون بالحمق والغباء وحتى لا نستمر بلا ذاكرة تجعلنا ننسى بعد برهة كيف وقعت الكوارث؟

 

فهل نتعلم الدرس؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved