رحلة فعلا تاريخية

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 31 مايو 2017 - 9:10 م بتوقيت القاهرة

عاد الرئيس دونالد ترامب إلى واشنطن من رحلة عاصفة ليجد فى انتظاره أجواء إعصار يؤذن باقتراب نهايته السياسية، العاصفتان تختلف أسبابهما وتتشابه نتائجهما. الصورة الراهنة لأمريكا تختلف حتما عن صورة أمريكا قبل انطلاق ترامب برحلته، وصورة العالم بعد الرحلة تختلف إلى حد كبير عن صورته قبل الرحلة. بل ولا أستبعد أن يحظى هذا الشهر، شهر مايو من عام 2017، باهتمام فائق من جانب المؤرخين وعلماء السياسة، ففى هذا الشهر وبخاصة فى أيام المنتصف اكتشف العالم الغربى، بل ربما العالم بأسره، أنه ولأول مرة منذ مدة طويلة، يعيش بدون دولة قائد. اكتشف، وهو الأخطر، أن رئيس أمريكا، الدولة المفترض أن تكون الدولة القائد، يتصرف تصرفات تنبئ عن جهل صاحبها بأصول وقواعد التجارة الدولية وأصول وقواعد أمن العالم وسلامه إلى الحد الذى دفع مجلة دير شبيجل الألمانية إلى القول بأنه «خطر على العالم». اكتشف أيضا أن رحلة الرئيس الأمريكى الأولى بعد توليه منصبه أضعفت العناصر التى أسست للنظام العالمى الذى نشأ بعد الحرب العالمية الثانية. إذ وعلى سبيل المثال، يعتقد «ريتشارد هاس» أحد أشهر خبراء أمريكا فى الشئون الخارجية، أن تصرفات ترامب فى هذه الرحلة أوحت للقادة الآخرين بأن أمريكا تخلت عن مبدأ تشجيع مختلف الحلفاء على الاعتماد عليها، وهو المبدأ الذى كان على امتداد سبعين عاما أو أكثر جوهر الاستراتيجية الأمريكية ومصدرا من أهم مصادر قوتها. يركز هاس على موقف الرئيس ترامب من تطبيق المادة الخامسة من ميثاق الحلف الأطلسى التى تفرض تقديم المساعدة الفورية لأى دولة فى الحلف تتعرض للعدوان دون النظر إلى مدى انضباطها فى تسديد نصيبها فى موازنة الحلف. يقصد أيضا ولا شك الصخب الهائل الذى افتعله الرئيس ترامب حول مقايضته حماية دول الخليج «ببلايين الدولارات وملايين الوظائف»، وهى الحماية التى كانت أمريكا تقدمها تلقائيا لحلفائها ولمصالحها كدولة أعظم وقائد للنظام الدولى.
***
جدير بنا ونحن نعيش هذه المرحلة الدقيقة أن نتوقف أمام كل تطور لنسأل ونفهم ونسجل. لا شك أننا نختلف عن «اللاحقين» الذين سوف يعيشون فى ظل وضع أتوا فوجدوه قائما. هذا الوضع الذى سوف يجدونه يجرى الآن صنعه أو تشكيله لبنة فوق أخرى ونحن شهود على ما يجرى. ومن الأفضل لهم ولنا أن نتابع بوعى ونسأل حتى نفهم ونعرف الأسس التى سوف يقوم عليها البناء الجديد. كنت أحد الذين تابعوا انحدار الولايات المتحدة من موقع القوة المنفردة الأعظم، وما زلت مهتما بمتابعة تصرفاتها كدولة عظمى منحدرة. كانت، ولا تزال مقارنة مثيرة تلك التى نجريها بين ولاية باراك أوباما وولاية دونالد ترامب، وبخاصة تصرفات الرئيسين وقد أشرف كلاهما على «إدارة انحدار» أمريكا خلال سنوات حكمه. نسأل مثلا، أى نوع من القادة تفرزها دول فى مرحلة انحدارها، ونسأل كيف تتصرف الدول وهى تنحدر، أتتشدد فى التمسك بقيم نهضتها أم تعود إلى قيم ما قبل النهضة. أتغامر فتشاكس وتتحرش أم تنسحب فتنعزل لتتأقلم مع وضعها الجديد أو لتنفرط. أفرزت المرحلة أوباما وترامب وهما نقيضان فى كل سمات القيادة والقيم والسيرة والأسلوب وإدارة الشئون الخارجية، وقد جربا أسلوبين مختلفين فى الحكم والتعامل مع الأجانب ومصادر القوة ومع ذلك استمر الانحدار. شكت أوروبا من إهمال أوباما لها وتشكو الآن من احتقار ترامب. لم تتخذ موقفا حادا من أوباما على امتداد ثمانى سنوات، بينما لم تتحمل غطرسة ترامب خلال ساعات معدودة قضاها بين بروكسل ومنتجع تاورمينا فى صقلية.
***
سيكون ممتعا ولا شك التوسع فى المقارنات لنتعرف بمزيد من الثقة على تصرفات الدول فى مراحل انحدارها. أظن أن المثال الأجدر بالاهتمام هو الحالة البريطانية. جربت بريطانيا الانحدار من أعلى درجات «العظمة» إلى وضعها الحالى الذى يصعب وصفه بأنه أدنى درجات الانحدار. يمكننا أيضا مقارنة تجربة انحدار مكانة مصر الدولية وكذلك الاقليمية بتجربة انحدار مكانة تركيا خلال القرن التاسع عشر وانحدار مكانة الأرجنتين والمكسيك وإندونيسيا فى أواخر القرن العشرين. هل توجد قواسم مشتركة لهذه الدول خلال مراحل انحدارها وفى نهايتها؟ نعم توجد وكثيرة، وهى القواسم التى تشكل فى مجملها حال الارتباك والضعف والانفراط والثورة السائد فى مختلف أقاليم العالم النامى.
لا أبالغ حين أضع كثيرا من اللوم للارتباك الحالى فى أوروبا على واقعتين تاريخيتين، أولهما: البريكسيت أى قرار بريطانيا الخروج من أوروبا فى بداية مرحلة جديدة من مراحل انحدار دورها ومكانتها الدولية، وثانيهما الانسحاب الأمريكى الثانى من أوروبا خلال فترة لا تزيد عن عقدين، هذه المرة على يد مغامر شبه جاهل بالسياسة الدولية ورافض لقيم النظام الليبرالى العالمى ومتعال على كل حلفاء أمريكا.
***
كانت فعلا رحلة تاريخية بالمعانى التالية. حققت لأمريكا، حسب تصريح الرئيس ترامب فور أن وطأت قدماه أرض إيطاليا، بلايين الدولارات وملايين الوظائف. وهذا فى حد ذاته انجاز لا أظن أن الكونجرس الأمريكى يجرؤ على حرمان أمريكا منه بعدم تصديقه الآن على الاتفاقات التى وقعها الرئيس فى الرياض. لم يذكر الرئيس ترامب انجازا ملموسا آخر سواء فيما يتعلق بالتزام حماية الحلفاء فى مواجهة التهديد الايرانى أو فيما يتعلق بالحرب الفعلية والحقيقية على الأرض ضد الارهاب. بل، وحسب رأى أوروبى، أضعفت الرحلة فرص التوصل مع اوروبا إلى صيغة عملية للمشاركة فى المجهودين.
***
حققت الرحلة، بمعنى ثان، اكتشاف العالم لحقيقة أنه يعيش بدون قائد. واقع الأمر يشهد أن السيد ترامب لم يتصرف فى سلوكه الشخصى والعائلى خلال الرحلة تصرفات تليق بزعيم العالم. لم يكن فى هذه الرحلة يتحدث بلغة قائد نظام دولى ولا حتى بلغة قائد حلف أو معسكر غربى. كثيرون فى الغرب وخارجه لم يصدقوا أن هذا الرئيس كان قبل أسابيع قليلة جدا يتعرض بكثير من الأذى النفسى والبدنى والسياسى والدينى للشعوب الاسلامية عامة، وينقل عن أحد كبار مستشاريه أسوأ ما فى خزائن الفكر العنصرى المتطرف فى الغرب. واضح جدا أنه كان يستعد لرحلته فى دول اسلامية بينما هو مستمر فى توقيع قرارات رئاسية تهدد سلامة واستقرار مواطنين أمريكيين مسلمى الديانة.
***
تولّد عن الرحلة، بمعنى ثالث، شعور ساد مختلف الأنحاء التى زارها، ولكن أيضا أنحاء عديدة من العالم، بأن رئيس الدولة، زعيمة العالم الحر والمدافعة منذ الحرب العالمية عن حقوق الشعوب وحرياتها، لم يتذكر هذه الشعوب مرة واحدة خلال الرحلة بطولها وعرضها. لم يأت على ذكر حق من حقوقها أو مبدأ من مبادئ الشرعية الدولية. لم يتعاطف مع شعب فقير أو مريض أو مضطهد. لم يترك خلفه رسالة واحدة، موجزة أو مسهبة، يمكن أن يحتفظ بها شعب للذكرى أو لحساب فى يوم قادم. لذلك وحين يرحل عن منصبه، سواء بعد أيام قليلة أو أعوام، لن تترحم على عهده شعوب كما تترحم الآن على عهد باراك أوباما الذى بدأ عهده برسائل إلى الشعوب وبخاصة إلى الشباب. كانت مفارقة صادمة لخبراء ترامب فى العلاقات العامة أن تخرج حشود لاستقبال الرئيس السابق أوباما فى برلين متذكرة رسالته لهم، وتخرج مظاهرات منددة بالرئيس ترامب بسبب موقفه من اتفاقية المناخ وسياساته العنصرية ودعمه لمرشحى التطرف القومى والعرقى.
فى نفس المعنى، سوف يتذكر الفلسطينيون هذه الرحلة بعدم الرضا إن لم يكن بالغضب. جاء ترامب ورحل ولم يذكر لفلسطين أو عنها كلمة طيبة واحدة. أثنى على اسرائيل وحكامها. أشاد بهم وأشادوا به. أخفوا تراضيهم ورضاهم عن تأجيل نقل العاصمة إلى القدس. لم يخف مرافقوه والمحللون حقيقة أنه يحاول تجاوزهم بترتيب عقد اتفاقات اقليمية إذا حققت شيئا فلن تحقق أكثر من تقزيم قضيتهم.
***
كانت رحلة تاريخية بمعنى رابع، ففى اليوم قبل الأخير من الرحلة انتفضت دول اوروبية فى مجموعة الدول الصناعية التى اجتمعت فى صقلية. لا يمكن انكار حالة الاحتقان التى أصابت قصور صنع السياسات الأوروبية خلال الشهور الماضية وربما قبلها أيضا، بسبب تردى مظاهر السلوك السياسى الأمريكى وتعدد ظهور علامات على نوايا للتنكر لالتزامات أمريكا تجاه أوروبا. أعتقد أن رد فعل المستشارة «ميركيل» وقد فاجأ العالم كله، وصلابة يد وموقف الرئيس «ماكرون» والغضب المشحون لدى أقوى حليفين لأمريكا فى المجموعة وهما الرئيس الكندى ورئيس وزراء اليابان وخيبة أمل المضيف الايطالى الذى توقع دعم موقف بلاده من قضيه الهجرة بعد أن أصبحت بلاده هدفا أول للهجرة من أفريقيا، توقع الدعم من أمريكا ولو مجاملة فلم يأت، كلها وغيرها غير قليل كانت مظاهر كاشفة لتحول عميق حدث بالفعل داخل معسكر الغرب وفى علاقته بالعالم الخارجى. هذه المظاهر هى أيضا حوافز لكل من روسيا والصين كدولتين صاعدتين نحو القمة لتكونا جاهزتين لمرحلة جديدة فى علاقات القوة العالمية. يبقى السؤال جاهزا دائما وأبدا، هل كانت هذه التحولات الكبرى، أو لا تزال، دافعا للدول المعتمدة على الولايات المتحدة فى أمنها وبرامج تنميتها لتوخى الحذر من تقلبات محتملة فى السياسات الأمريكية وبخاصة سياسات الحماية والدعم؟
****
كانت رحلة تاريخية بمعان عديدة، وسوف تزداد المعانى مع مرور الوقت واتضاح مدى استيعاب دول أكثرها معتمد على أمريكا وأقلها دول صاعدة لمغزى التحولات وعمقها. تزداد المعانى أيضا عندما تتعقد أو تنفرج أزمة النظام السياسى الأمريكى، وعندما يتفاقم سباق التسلح فى الشرق الأوسط والشرق الأقصى وتتسارع الخطى نحو الانفلات العسكرى.
رحلة بالفعل تاريخية ومرحلة بالفعل مثيرة.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved