«الخروج من البلاعة».. فراشة فى مدينة بائسة!

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: الخميس 31 مايو 2018 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

ترسم هذه الرواية نموذجا نسائيا فريدا ومؤثرا، يغمس مؤلفها ريشة فى الواقع المؤلم، وريشة أخرى فى الخيال الحر، وتحضر المدينة بقدر حضور الشخصية، كما تحضر الثورة، بقدر حضور الهم الشخصى، تبدو فكرة الخروج والتحرر بعيدة المنال، ولكنها تحدث فى النهاية، وفى أبعد الأماكن المناسبة لذلك.

فراشة فى مدينة بائسة، هذا العنوان العريض لتجربة «حورية»، أو «حرنكش»، بطلة رواية «الخروج من البلاعة» لمؤلفها نائل الطوخى، والصادرة عن دار الكرمة للنشر والتوزيع، و«البلاعة» هنا هى ظروف حورية، قدرها واختياراتها ونصيبها كذلك من البشر والظروف، وحياة مدينتها ما يبن عصر مبارك، وثورة يناير وما بعدها.

تشهد حورية على الخاص والعام، ولكن شيئا جوهريا من معاناتها لا يتغير، هى التى تتدخل لكى تقهر خوفها، ولكى تحكى وتقول كل شىء بكل صراحة صادمة، تعلن الحرب على النفاق والكذب، وتكسر الحلقة التى تدور فيها، لا يعنيها أن تبدو حكايتها غربية، أو غير قابلة للتصديق، يعنيها أن تسجل وقائع حربها، كثيرات صامتات، ولكن حورية ستتكلم بلا حرج أو خوف.

لا تنفرد حورية بالسرد، هناك راوٍ عليم يساعدها، وهو راوٍ يرتدى قناعين: قناع المتأمل لأحوال المدينة والبشر، بحيث تبدو حكاية حورية جزءا من حكايات البشر المتشابكة، وبحيث تبدأ الحكاية بجرثومة نقلت دور البرد إلى حورية، لننطلق من خلالها إلى جراثيم أكبر وأخطر، وقناع شخص من نفس عالم حورية، ومن نفس طبقة صراحتها التى لا تتجمل، والتى تسمى الأشياء بمسمياتها، وهو أمر مناسب تماما لمجتمع كالبلاعة، ولأشخاص كالحشرات.

والصراع فى الرواية أعمق بكثير من رفض حورية لشخص أو لموقف، إنه أقرب إلى صراع أبطال الدراما الإغريقية فى مواجهة أقدار عاصفة ومكتسحة، رغم معرفة هؤلاء الأبطال بالنتيجة مسبقا، حورية تدافع عن بيتها وابنها وعملها وحبها وأصدقائها طوال الرواية، ولكن أعداءها الحقيقيين هم الكذب والنفاق والموت والصدفة والشيطان نفسه، وهم أعداء جذورهم عميقة وراسخة، وحورية بكل عفويتها وبساطتها وطاقة الحياة فى شرايينها أضعف من أن تزيل هؤلاء أو تمحوهم، ومع ذلك لا تتوقف أبدا عن المقاومة، وفى مكانها الأخير الذى تحكى منه، تخرج «فراشة» تنوب عنها فى التحرر والتحليق.

من أذكى حيل الرواية أن حورية، مدرسة الرياضيات، ابنة النوبة، وابنة أبيها الذى علمها الاكتشاف بالمشى، والتصويب بالرصاص، ستكتشف وتتعلم من الحياة أكثر بكثير مما علمته لتلاميذها، الرواية درس فى الحياة الرمادية المراوغة التى تبدو مثل أوديسة كالمتاهة، وليست أبدا مثل معادلة أو مسألة حساب قاطعة الحلول.

فى كل مغامرة تخوضها حورية قصة حب أو صداقة يهزمها الموت، وفى كل «حوداية» عفريت، يحدث ذلك فى مناطق مختلفة فى مدينة باذخة الامتداد، فى السيدة زينب والمنيل، وفى شارع قصر العينى وميدان طلعت حرب، وفى الدقى والمقطم.

بحث حورية عن رجل وبيت هو بحث عبثى عن الاستقرار الذى لا يتحقق، والثورة يفترض أن تحقق تغييرا للناس، وليست تغييرا للحكام فحسب، فى الماضى حقائق وفضائح، وفى الحاضر أيضا، وغرابة حضور الابن الميت فى الرواية تتضاءل فعلا أمام غرابة الحياة والبشر، ولكن حورية لا تفقد ثقتها أبدا بمعاونة السيدة زينب لها، ولا تفقد ثقتها بقدرتها على قتل الشر والشيطان، ولا تنسى أبدا أنها حرنكش، البنوتة التى تمسك أبوها بأن تنتسب إليه، والطفلة التى لم تترك ثأرها يوما من الأيام!

يموت كل من تقترب منه، ولكنها لا تتوقف عن الحب، ولا عن الحلم بالأفضل، عنوان «الخروج من البلاعة» عنوان له ما يبرره فى الرواية، ولكنى أراها رواية حرنكش، هى الجديرة بأن تحمل الرواية اسمها، هى البداية والنهاية، والحقيقة والخيال، كأنك قد رأيتها فى مكان ما، بتفاصيل حياتها وهيئتها، وكأنها، فى نفس الوقت، معنى مجرد فى مدح الأنثى الصابرة القوية، مصدر الحياة، وعنوان البقاء والحرية.

يلفت النظر أيضا أن الرواية لم تقع فى التنميط، إنها تلتمس الصدق والحقيقة وراء كل الأقنعة، بين الثائرين والمتفرجين على حد سواء، لدى نائل الطوخى قدرة هائلة على السرد المنهمر دون أن يستغرقه ذلك بعيدا عن ضبط الحبكة، وإتقان بالبناء.

شخصياته حاضرة المعالم بكل أبعادها، وسخريته لامعة، وإن كانت هنا سخرية خافتة بالمقارنة بروايته المدهشة «نساء الكارنتينا»، خياله يغلف واقعا مريرا بمستوى آخر من القراءة والتأمل، فلا نتجاهل مرارة الحقيقة، ولا ننسى حلم الخروج فى نفس الوقت، وكلما زاد القبح والظلام، زادت الحاجة إلى النور والجمال؛ ولذلك لا نستطيع أن ننسى حكاية حرنكش، ليس لأنها امرأة مثالية لم تخطئ، ولكن لأنها حاولت، رغم مأساتها، أن تغير عالمها، وأن تجعله أفضل.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved