البرلمان

أهداف سويف
أهداف سويف

آخر تحديث: الأربعاء 31 أغسطس 2011 - 1:20 م بتوقيت القاهرة

 ذهبت إلى إدنبرة، للقيام ببعض الفاعليات فى مهرجانها الثقافى السنوى. البعد عن مصر فى أيامنا هذه صعب جدا، وكأن الواحد عايش بنص عقل ونص روح. شباك على اللاب توب مفتوح على طول على القنوات العربية، وشباك مفتوح على تويتر، حيث تبدو أخَفّ النكات والقفشات ــ من هذا البعد ــ ذات أهمية قصوى، أما شباك الغرفة فهو مفتوح أغلب الوقت على أجواء رمادية غائمة، تستشعر البلل فى هوائها، يُجَمِّع نفسه، فينهمر مطرا، مطرا، مطرا ــ ثم فجأة تشرق الشمس فتتبدل روحك وروح المدينة فى ثانية وترى التاريخ فى حاراتها المتكدسة، والرومانسية فى الجبل التى هى جزء منه، والطموح والتفاؤل فى ثقل وثقة أعمدة وصروح عصر التنوير.

ومهرجان إدنبرة أصبح الآن أكبر مهرجان ثقافى فى أوروبا، ويشتمل على جميع الفنون (فيما عدا السينما، وهى الأخرى سوف تهجر موعد مهرجانها فى مايو وتنضم إليه فى أغسطس)، ويتضاعف فيه عدد الناس فى العاصمة الإسكتلندية فيَصِل إلى مليون! والنصف مليون الوافدة تراها فى حركة دائمة (سواء أشمست السماء أو أمطرت) فى الشوارع والمطاعم والمسارح ودور العرض والمزارات السياحية، وتعطى المدينة دَفعة اقتصادية ومعنوية هائلة، وانضم إليه أخيرا البرلمان الإسكتلندى الوليد، فأقام هذا العام مهرجانا صاخبا/ جادا حول كل ما يتعلق بمسائل حقوق الإنسان.

وكما هو معروف، فالـ«تيمة» السياسية الأكثر حضورا فى تاريخ اسكتلندا هو ثوراتها المتكررة ضد الحكم الإنجليزى ومحاولاتها المستمرة للفكاك من أَسْر حكم جارتها الجنوبية. وقد اتخذت هذه الثورات أشكالا مختلفة بحسب العصور التى حدثت فيها، وكان آخرها الاستفتاء الشعبى الذى أدى إلى الـ«ديفولوشن» أو «الحكم الذاتى» الذى تعيشه اسكتلندا منذ عام ٢٠٠٤. وسوف يصوت الإسكتلنديون فى استفتاء حول الاستقلال التام فى العام المقبل.

يحب بعض الاسكتلنديين أحيانا أن يحتلوا مكانا فى صفوف الشعوب الخارجة من التجربة الكولونيالية، لكن بالطبع استعمار عن استعمار يفرق، وقد قامت الفرق الاسكتلندية فى الجيش البريطانى بقمع شعوب العالم الثالث خير قيام.

ومع ذلك، تبقى «الحرية» و«الكرامة» و«حق تقرير المصير»، كلمات ذات وقع خاص فى الأذن الإسكتلندية، ولذلك فالناس نِفسَها تسمعنا، ومشدودة إلى رومانسية ثورتنا (أو على الأقل رومانسية الـ١٨ يوما الأولى)، ومازالت مشدوهة بما أنجزناه فى تلك الأيام، وتتمنى لنا الخير، لكنها قلقة علينا. أسئلة الجمهور المزدحم فى ندوات «الربيع العربى» تعبر عن القلق بالتمحور حول ثلاث نقاط:

س: هل تخافين الحكم الإسلامى؟

س: هل تخافين الحكم العسكرى؟

س: كيف ستمَوِّلون البرامج التى تتجه نحو تحقيق العدالة الاجتماعية؟

وقد وجدت مرارا وتكرارا أن الحل الأمثل فى هذه الظروف هو معالجة السؤالين الأولين برسم خريطة سياسية سريعة لمصر اليوم (سأعفى من سردها قارئى المصرى الأعلم بها منى) نختصرها بقول إن المؤمن بالديمقراطية يؤمن بوجوب التمثيل الحقيقى لجميع أطياف الشعب، وإننا جميعا أبناء بلد واحد، وجيشنا له دور أساسى فى حماية حدود البلاد وسيادتها وأننا جميعا سوف نعمل معا ونبدع نماذج مصرية فى أسلوب إدارة بلادنا.

يسألون «كيف نساعدكم؟»

نقول: عاوزين تساعدونا؟ ساعدونا فى النقطة الأخيرة: التمويل وما يرتبط به من سياسات دولية، سيبوا الأمور الداخلية لنا وساعدونا فى تغيير سياسات حكوماتكم، فى رفع أيديها وأيدى الهيئات المالية الكبرى عنا، فى التصاقها بالأنظمة الرجعية فى منطقتنا مثلا. حاولوا أن تتخلوا عن تبعيتكم لأمريكا فيما يخصنا ــ ولا بأس من محاكمة تونى بلير لدوره فى الحرب على العراق، ارفعوا الدعم الاقتصادى والمعاملة التفضيلية عن إسرائيل، وأعيدوا النظر فى صفقات السلاح والتعاون الأمنى فى المنطقة، يعنى مافيش داعى تدربوا القناصة اللى بيصطادوا اخواتنا فى البحرين مثلا. تعاملوا معنا تجاريا بالعدل والحسنى، ولما ييجى الوقت، وهو جاى لا محالة، حين سنطلب إعادة التفاوض حول العقود المجحفة التى وقع عليها نظامنا العميل ــ فى البترول مثلا ــ مع كبرى شركاتكم مثلا ــ ساندونا بأصواتكم وتضامنوا معنا بالوسائل المتاحة لكم كديموقراطية متأصلة، ومؤمنة بالعدالة ــ وثورية إلى حد ما.

كانوا يسمعون ويتفاعلون ويستحسنون. هل سنرى مساندة فعلا؟ نرمى خبزنا على المياه ونرى أى السمك يأتى إلينا.

أما ما أتيت به اليوم، فهو قصيدة لشاعر إسكتلندا الكبير، إدوين مورجان (١٩٢٠ــ٢٠١٠)، كتبها لبلاده يوم افتتح المبنى الجديد/القديم للبرلمان الاسكتلندى الوطنى فى ٢٠٠٤. يستهلها بوصف مطول للمبنى نفسه، ثم ينتقل إلى وصف ما يريده الشعب للمكان. رأيت فى هذا الجزء مثالا لعالمية الطموحات والآمال الإنسانية، وبما إننا، إن شاء الله يا رب، داخلين على انتخابات، رأيت أن أنقلها إلى العربية (بقليل من التصرف) وأضعها بين أيديكم، فأملنا الكبير أن يكون العصر القادم هذا عصر الشعوب وليس عصر النظم. فمن إدنبرة، البرلمان:

ماذا يريد الشعب من هذا المكان؟

يريده أن يمتلئ بأفراد تفكر، أفراد متفتحة الذهن، جريئة.

الشعب لا يريد عشا من الجبناء.

لا يريد ندوة من الكسالى والمؤجِّلين.

لا يريد كتيبة من المطأطئين.

وفوق كل هذا لا يريد أن يسمع بعد اليوم مناحة المهزومين والمتملصين.

أيها الأصدقاء، أيها المشرعون، أيها البرلمانيون:

تلتقطون اليوم خيطا ــ تصلون اليوم خيطا من العز والاعتداد واهن كاد ينقطع كدنا ننساه، لكنه بقى.

حين تجتمعون، ستكون إعادة واستعادة.

لم تملكوا بعد السلطة كلها ولكن
عندكم ما يكفى لاستعادة الشعور،
لإدراك ما كان بين أيدى سابقيكم من شرف.

عموما، لننسى، أو نتذكر، الماضى،
الهيلمان والبروتوكول أشياء مهمة،
لكنكم ــ اليوم وغدا ــ ستحتاجون إلى شىء آخر.

ما هو؟

ستكتشفوه.

وسنخبركم به فى أوانه.

نحن الشعب

نعطيكم موافقتنا على أن تحكموا، لا تضعوها فى جيوبكم وتهربوا.

نحن الشعب

نعطيكم أعز الرجاء أن تحكموا بالخير، فنحن المرجعية.

نحن الشعب

نعطيكم هذا المبنى المهيب

فليكن عملكم وليكن أملكم عظيما حين تدخلونه وتبدأون.

فلتبدأوا. افتحوا الأبواب، وابدأوا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved