الانتقال قبل المصالحة

إبراهيم الهضيبى
إبراهيم الهضيبى

آخر تحديث: الجمعة 31 أغسطس 2012 - 8:35 ص بتوقيت القاهرة

 طى صفحة نظام مبارك والانتقال الحقيقى لنظام جديد لا يمكن أن ينبنى على «المصالحة» مع الفلول سياسيا واقتصاديا بدعوى الحاجة للاستقرار، إذ الانتقال يحتاج لقطع الصلة بالماضى عن طريق تغييرات هيكلية فى مؤسسات الدولة وقوانينها التى سمحت بنشأة واستمرار أوضاع غير مرغوبة، والظروف الآن مواتية لإحداث هذه التغييرات، وبدونها تنعدم ضمانات عدم الردة للنظام السابق.

 

•••

 

المقصود بالانتقال هو استبدال هياكل وقوانين وآليات عمل النظام الذى قامت ضده الثورة بأخرى تتجنب ــ بشكل مؤسسى ــ أخطاء الماضى، وفى مصر ينبغى أن يتناول الانتقال أربعة ملفات رئيسة، هى الانتهاكات الحقوقية، وإفساد الحياة السياسية، والفساد الاقتصادى، والإهمال الجسيم الذى عم مؤسسات الدولة، فهذه الملفات هى التى جعلت علاج النظام بغير الثورة مستحيلا. 

 

والمقصود بالمسار الانتقالى هو مجموعة الإجراءات التى يتخذها من له شرعية (ديمقراطية أو ثورية)، بقصد تفكيك وإعادة تركيب مؤسسات الدولة وقوانينها على نحو مغاير، مستفيدا من الخبرات السابقة لهذه المؤسسات والقوانين وما أفرزته من مشكلات، ومن خبرات الدول التى مرت بمساع مماثلة للانتقال.

 

والمسار الانتقالى فى مصر يبدو متخبطا، بشكل ينم عن عدم امتلاك مؤسسة الرئاسة لرؤية جامعة تحكم قراراتها فى هذا الإطار، فبعض القرارات ــ كإقالة عدد من القيادات العسكرية ــ يوحى برغبة فى تغيير جذرى وانتقال حقيقى لأوضاع سعت لها الثورة، وبعضها ــ كاصطحاب بعض رجال الأعمال الفاسدين والمقربين من مبارك ونجله للصين، والانشغال بـ«المصالحة الوطنية» (وليس للعدالة الانتقالية) ــ يدل على التصالح مع الأوضاع القائمة.

 

•••

 

 

قد تنتهى الإجراءات الانتقالية أحيانا ببعض المصالحات، بيد أنها لا يمكن أن تبدأ بها وإلا كان الانتقال محكوما عليه بالفشل، فنقطة البدء فى أى مسار انتقالى هى إجلاء الحقيقة، إذ معرفتها، وإطلاع العامة عليها كاملة، ضمانة رئيسة لعدم تكرار الأخطاء، لأنه أولا يفتح الباب أمام المعالجة الحقيقية المبنية على المعرفة، وثانيا يوجد رأيا عاما يرفض التجاوزات والانتهاكات بعدما يطلع على بشائعها، وثالثا يوجد وعيا عاما وتحفزا مجتمعيا إزاء ما يفتح أبواب العودة لممارسات مرفوضة.

 

وإجلاء الحقيقة مهمة تحيط بها تحديات، أولها استمرار نفوذ بعض مؤسسات النظام السابق وأفرادها وأصحاب المصالح المرتبطة بها من خارجها، وهؤلاء لا يرغبون فى كشف الحقائق إما لأن كشفها يدينهم، أو لأنهم يستفيدون من استمرار الفساد وبالتالى لا يرغبون فى كشف أسبابه، وثانيها فتور التأييد الشعبى لمساعى التغيير لأسباب تتعلق بأسلوب إدارة المرحلة الانتقالية (وما كان فيها من غياب متعمد للأمن والخدمات الرئيسة على نحو أشعر عموم المواطنين بارتفاع كلفة التغيير وجعلهم يتشككون فى جدواه) وأخرى تتعلق بأداء القوى السياسية المختلفة (التى قدمت صراعاتها البينية وعجزها عن العمل المشترك القضية للمواطن باعتبارها قضية مكاسب حزبية ضيقة لا قضية وطن)، وثالثها غياب المنهجية الواضحة لإجلائها عند الأطراف الموجودة فى السلطة، والتى لا تزال تتعامل مع العدالة الانتقالية بـ«القطاعى» فتعين لجنة للتحقيق فى كل واقعة، وتنتدب قاضيا للتحقيق فى كل حادث.

 

•••

 

يحتاج إجلاء الحقيقة أولا لإرادة سياسية، لا يستطيعها من أراد ستر بعضها لتورطه فيه، ولا من يريد استبقاء بعض أدوات السلطة (التى طالما استخدمت ضده) فى يده ليستخدمها وقت الحاجة ضد خصومه (ربما فقط لأنه لا يعرف أدوات سواها)، ولا التيارات شديدة المحافظة التى تغلب الريبة عند النظر لأى تغيير، فإذا توافرت هذه الإرادة فأول ما ينبغى أن تنصرف إليه هو تشكيل لجنة كشف الحقائق والمحاسبة على جرائم النظام، وإيجاد شروط نجاحها.

 

وأول شروط نجاح اللجنة أن تكون فى تشكيلها وفى عملها مستقلة تمام الاستقلال عن السلطة التنفيذية، وبعيدة عن الصراعات الحزبية التى تحول قضايا الانتقال أسلحة يستخدمها كل طرف ضد خصمه، فينتهى الأمر بفشل الانتقال، وفتح أبواب الردة للنظام القديم بشخوصه وآلياته (كما حدث فى المجر)، وهذا التهديد جدى فى مصر لأن الاستقطاب قائم على أسس الهوية لا الموقف من الثورة والتغيير، وهو ما يستوجب مزيد المراعاة عند اختيار أعضاء اللجنة ليكونوا ممثلين لكل أطراف المشهد السياسى، ومتسامين عن الانتصارات الحزبية مشغولين حقيقة بقضية الانتقال.

 

وشروط نجاح اللجنة بعد تشكيلها ــ كما تنبئ تجارب الانتقال ــ تتلخص فى ثلاث نقاط، أولها منح اللجنة الصلاحيات الكافية للعمل، وتمكينها من التحقيق مع كل الأطراف التى تريد، والحصول على ما تحتاج من وثائق، بحيث يكون ثمة رادع يمنع من عدم التعاون معها، وفى هذه الحالة تكون بعض المصالحات مفيدة لمن كانوا فى الرتب الأدنى، إذ ينظر إليهم كضحايا أكثر من جناة، فتتم مصالحة بعضهم فى غير الجنايات الكبرى مقابل الحقيقة، ولا يمكن القبول بأن يحدث ذلك مع القيادات الكبيرة فى الدولة والفاسدين خارجها الذين استفادوا من الفساد وينبغى أن يتحملوا مسؤوليته السياسية.

 

ثانى الشروط الحفاظ على الشرعية السياسية للجنة، وذلك بحفاظها على مستوى عال من الكفاءة، وبقائها بعيدا عن الصراعات الحزبية، وشفافيتها مع الجماهير، وتواصلها المستمر مع المواطنين، وإشراكها الضحايا وذويهم فى أنشطتها، وإنجاز العمل فى أقصر وقت ممكن لئلا يفتر الحماس الشعبى فتقوى المقاومة وتمنع من إنجاز العمل، أما آخر الشروط فعرض التقرير النهائى للجنة على العامة بوسائل مختلفة، والاستفادة من نتائجه فى إعادة هيكلة مؤسسات الدولة، ومعاقبة المسئولين عن الانتهاكات، فبدون ذلك لا يكون ثمة تغيير حقيقى ويبقى الجهد بلا عائد.

 

•••

 

يبدو الظرف مواتيا للانتقال الحقيقى، فالأطراف الموجودة فى السلطة تتمتع بشرعية ديمقراطية تمكنها من البدء فيه، والمؤسسة العسكرية التى كانت تزاحم الرئيس الحكم تراجع نفوذها السياسى ــ مؤقتا على الأقل ــ بإقالات 12 أغسطس، ومؤسسة الرئاسة لا تزال ــ للآن على الأقل ــ أحرص من الحزب الذى ينتمى إليه الرئيس على التشارك مع جميع التيارات، وهذه الفرصة قد تفوت بتغليب مساعى المصالحة على مساعى الانتقال، أو بعدم التعامل مع ملف الانتقال بما يحتاجه من أولوية وكفاءة.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved