خلف النوافذ

خولة مطر
خولة مطر

آخر تحديث: الإثنين 31 أغسطس 2015 - 6:45 ص بتوقيت القاهرة

وراء النوافذ المشرعة كانت كثير من الحيوات.. من خلف النوافذ.

تقف أنت هنا أمام مبنى بنوافذ كثيرة مشرعة لا شىء سوى نسمة ساخنة تحمل بعض ما تبقى تلك الحياة التى كانت تتلاعب بها تنقلها من هنا إلى هناك وعند النافذة.

عندما تمر بتلك النوافذ الا يأخذك المشهد بأنها نوافذ كثيرة دون حياة....

لا تمر بها دون أن تستوقفك بعض الشىء وأن تنظر خلفها.. فخلف النوافذ كانت هناك كثر من الحيوات ورحلت أسرع من نسمات الصباح المتقطعة فى حر أغسطس.

لا يملك مشهد النوافذ العالقة فوق بقايا جسد عمارة سوى أن يستفزك خاصة وأنه أصبح أكثر تكرارا وكأنه المعتاد فى مدننا الصابرة اليوم. لا يملك هذا المشهد إلا أن يبعث على التساؤل المحزن.. فيا ترى كيف كانت الحياة. قبل اليوم الأخير من الحياة الأخيرة؟؟ عندما رحلت النساء والأطفال والرجال تحت أصوات ذاك القادم المرعب.

***

وراء تلك النوافذ كثير من الحياة التى كانت.. خلف كل واحدة جلست عائلة هنا تحققت حول مائدة حملت كل ما لذ وطاب حسب إمكانية تلك الأسرة وضمن زمن كان الرغيف الساخن يأتى مع كل صباح كما بديهية الأخير.. لا أحد يفكر هل سنستيقظ لأجد النسمة وقد رحلت مع أول عاصفة حولتها إلى رياح عاتية ابتلعت كل شىء.. كل شىء سوى النوافذ شاهدة على تلك الضحكات والأحاديث وحتى الصمت الذى حملته بعض أحزان الزمن المعتادة.

وقفت النوافذ فيما تهاوت الجدران وتطايرت قطع الأثاث البسيطة والصور التى زينت الجدران حول كثير من الحياة التى كانت.. هنا طفل كان وهذه صورة لحفلة الزواج بنادى المدينة التى كان يحسبها أهلها عروسة للمدن.. أليست كل المدن هى عرائس سكانها.. كل المدن التى كانت تعرف الصبيحات الأولى مع رائحة البيض بالزبدة والخبز الطازج القادم من الفرن بآخر الشارع.. أين أصبح ذاك الفرن؟؟ رحل هو الآخر بعد أن رحل الجميع تحت أصوات العنف القادم بتلاوينها، أصبح للعنف تلاوين لم يعرفها سكان كانوا خلف تلك النوافذ...

هناك نافذة أخرى تعرف حتى من قطعة القماش التى سترت النوافذ الأخرى.. خلفها تراكمت بقايا متعلقات هى فى الحقيقة بقايا لحياة عائلة محمود الذى رحل مع الرصاصة الأولى وبقيت الأسرة التى لم تجد النحيب ولا للحزن وقتا، بقيت تصارع الأيام والجميع مستلق على الأرض حتى تساقط المنزل قطعة قطعة بقيت نافذته صامدة وكأنها تصد كل الموت والألم القادم وحين اخترقت تلك الرصاصة النافذة ومنها إلى صدر دعاء الصغيرة كان على أمل أن تحبس دمعها وتجمع بعض ما تبقى من الأغراض تلفها فى ما تبقى من ملحق سريرها وتمسك بأطفالها الأربعة وتجرى سريعا بين رصاصة وأخرى فتنتهى إلى الشارع ومنه إلى شوارع وأرصفة كثيرة نسيت أسماءها فى زحمة التنقل وبقيت صورة الحياة التى كانت خلف النافذة مخزنة بصدرها تحملها معها أينما ارتحلت...

***

كانت هذه النوافذ تحمل صورا لأولئك السائرين، العاملين، الجالسين على أرصفة الطريق الموازى وأمام ذاك الجامع العريق... هو الآخر لم يسلم من العواصف التى اقتلعت البشر، والمنازل والمساجد والكنائس... تساوى الجميع فى الألم والهم وفى ذلك توحد...

مدن كثيرة بقيت نوافذها أو ما وراءها هى الشواهد الحاضرة على أنه كانت هنا عائلة أيامها مليئة بالفرح والحزن المغموس بوجع الأيام العادية وكذلك الضحكات التى كانت تتساقط على أسماع المارة تحت تلك العمارات بنوافذ كثيرة....

فالحياة ما هى إلا مجموعة من التجارب اختزنتها ربما هذه الغرف التى أصبحت معتمة رغم أنه منتصف اليوم وشمس أغسطس الحارقة ترسل بنورها لتطلع ما تبقى من حياة فى تلك الأبنية الشاهدة على مدن وقرى كانت!!!!

اصطفت النوافذ وحدها لتحكى مجموعة من الحكايات، لم يتبق فى كثير من مدننا سوى هى.. نوافذ كثيرة وما خلفها.. هى التى ستحكم يوما على أولئك الذين تَرَكُوا كثيرا منهم هنا ورحلوا مجبرين أو تحت صراخ أطفالهم الذين يتركونهم أن يسكتوا الأصوات القادمة.. أن يوقفوا الهدم ويهربوا بين قذيفة وأخرى أو قبل أن تأتى جحافلهم فتسرق ما تبقى من طفولة وحياة وتتحول المدن الملونة بألوان قوس قزح إلى مجرد مرافق عالقة بين جدران متراخية..

***

تتشبث النوافذ بمكانها، تبقى عالقة فى واجهة العمارات ربما لتكون شاهدا على أن خلف النوافذ دائما كانت حياة وأن النوافذ تحمل الأمل بأن البعض يرفض أن يرحل أو لا يملك هذه الرفاهية المتناهية!!!!

رفاهية أن تبقى تحمى طفلك بجسدك حتى يسقط هو الآخر فلا يبقى لطفلك سوى صورة يرسمها على التراب ويرتمى بعدها فى حضن الصورة والتراب متكوما على صدر أمه!!!!!

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved